الدكتور مفيد إبراهيم سعيدلقد خرج المسيح حاملاً الصليب على كتفه ليعلن لنا أن رياسته لا تكون إلا بالصليب. إنه يبسط سلطانه ورياسته على هذا العالم بصليبه، لا بالقسوة ولا بالقوة، بل بالمحبة والتضحية وصليب العار – رياسته هي صليبه.
ويقول الكتاب: "أخذوا يسوع ومضوا به." دبّروا أمر هذا الصليب وخططوا أن يُصلب بين لصين إمعانًا في محاولةٍ لإذلاله والسخرية منه والهزء به، وهم شأنهم في كل زمان ومكان – لم يعرفوا أنهم حين كانوا يظنون أنهم يمتلكون ناصية الأمور ويتصرفون كيفما يشاؤون، لا يعرفون أنهم كانوا يتممون إرادة الله الذي يهيمن على الجميع. كان لا بدّ أن يُصلب بين لصّين لكي يتمّ المكتوب: "أُحصي مع أثمة."

المسيح بين لصين، هذا هو الرجل المناسب في المكان المناسب، المخلّص بين الخطاة... الطبيب بين المرضى... الفادي بين الهالكين – وهو على الصليب بين لصين نجده في المكان المناسب لأنه "أخلى نفسه آخذًا صورة عبد... وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب." كان لا بد أن يوجد المخلص بين الخطاة. أن يوجد الفادي بين اللصوص. وما كان ممكنًا أن يفتدينا ويخلصنا إلا بهذه الصورة. صلبوه وصلبوا معه لصين: لصًا خاطئًا التجأ إليه فخلص، ولصًا خاطئًا سخر منه فهلك. وهذه الصورة سنراها متكررة كما يحدثنا متى في إنجيله (31:25). حين يأتي المسيح ليملك، يقول: "ومتى جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه، فحينئذ يجلس على كرسي مجده. ويجتمع أمامه جميع الشعوب، فيميّز بعضهم من بعض كما يميّز الراعي الخراف من الجداء، فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن اليسار." هذه الصورة التي رأيناها فوق الجلجثة: المسيح في الوسط والناس ينقسمون إلى لص تائب نال حياة فيه، وإلى لص مجدّف مات في خطيته. هذه الصورة ستتكرّر حين يأتي المسيح ثانية ليملك على هذه الأرض، وسيقسم الشعوب إلى قسمين: إلى خراف وإلى وجداء.
حين نتأمل اللص الهالك نلاحظ أنه إنسان هلك وهو على بعد أمتار قليلة من المخلص – وهذه حقيقة لا بد أن تستوقفنا. إن القرب المادي، أي المسافة الجغرافية من المسيح ليست هي التي تخلصنا، إنما خلاصنا هو بالعلاقة الروحية معه. قد نولد في بيوت مسيحية، وقد نعيش في كنائس مسيحية، لكننا بعيدون عنه كل البعد روحيًا. هذا اللص كان عطشانًا وإلى جواره ينبوع مياه، لكنه مات عطشانًا. كان خاطئًا وإلى جواره مخلص الخطاة، ولكنه مات في خطيته، لأن المهم ليست المسافة المادية الجغرافية، بل العلاقة والامتياز الشخصي.
ونظرتنا إلى اللص الذي هلك وإلى اللص الذي آمن، تُعلمنا أن الظروف ليست هي التي تغيّر الإنسان. فذات الظروف ونفس الآلام وقعت على اللصين، وكان الاثنان في ذات الظروف تمامًا. واحد آمن وواحد هلك. فليس لنا أن نتعلل بالظروف أو الألم – فالألم يمكن أن يطهر إنسانًا، ويمكن أن يقسي قلب إنسان آخر. كما أن الشمس التي تذيب الثلج هي ذاتها التي تجمّد الطين. واحد آمن فخلص، وآخر هلك.
أما الذي هلك فكان يسخر من المسيح سخرية الباقين. فالكلمات التي وُجّهت للمسيح وهو على الصليب كان منها ست كلمات سخرية وهزء. يقول الكتاب في متى 39:27 "وكان المجتازون يجدّفون عليه وهم يهزّون رؤوسهم." سخر منه المجتازون، العابرون الذين لا يريدون أن يتوقفوا ليفهموا، الذين لا يريدون أن يبحثوا ويتعمّقوا. إنهم يأخذون الأمور بسطحية، وهم عابرون مجتازون لا يريدون أن يفهموا – ولو وقفوا لرأوا ما لا يخطر لهم على بال.
حذار أن نأخذ المسيح بمأخذ السطحية، أن نمرّ عليه مرور الكرام... دعونا نتعمّق في معرفته. دعونا نفهم ونختبر. ولو وقفنا واختبرنا لاكتشفنا ما لا يخطر لنا على بال.
سخر هذا اللص كما سخر المجتازون، فقال: "إن كنتَ أنت المسيح فخلّص نفسك وإيّانا." والعابرون قالوا: "إن كنت أنت ملك اليهود فخلّص نفسك." استخدم الشيطان عبارة: "إن كنت ابن الله" مرتين مع المسيح في تجربته بالبرية وكأني بالشيطان يقول: لا يليق بك -إن كنت ابن الله- أن تجوع، أو أن تُعلّق على صليب. فإن كنت فعلاً قادرًا، حوّل الحجارة إلى خبز أو انزل عن الصليب فنؤمن بك. إنهم يظنون أنه صُلب ضعفًا، إن الذي علّق المسيح على الصليب، لم تكن هي المسامير، ولا كانت قوة الرومان ولا قوة اليهود، وإنما الذي علّقه على الصليب هو محبته لنا. إنه ابن الله الذي جاء يطلب ويخلّص ما قد هلك.
إن هذا اللص تحدّث بذات الكلمات التي تحدّث بها الناس في مختلف العصور، فيقول له: "إن كنت أنت المسيح فخلّص نفسك وإيّانا." وهو يريد خلاص الجسد، فهو لا يتحدث عن خلاص الروح أو الخلاص من الخطية، وكأنه يقول له: ما نفعك وأنت لا تستطيع أن تنزلني عن الصليب وترفع الألم عني. إن كنت حقًا ابن الله فارفع عني الألم، واملأ جوفي وأشبعني. هذه هي النظرة المادية التي ما زلنا نسمعها، والتي يقولها الناس مع هذا اللص. إن كانت المسيحية حقيقة، وإن كان المسيح حقًّا هو ابن الله، فكيف يترك الجياع ولا يشبعهم؟ قبل أن يقول لنا: "اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره" ليملأ بطوننا الجائعة وإلا فالمسيحية أفيون الشعوب وليست حياة للشعوب.
إن المسيح يخلصنا روحًا ونفسًا وجسدًا. إنه يخلص أرواحنا، ويفكّنا من أسرنا، ويعطينا حياة أبدية. لو أن الخطيئة رُفعت عن العالم بقبول المسيح فاديًا له، إذًا لرُفع الألم عن العالم. لكن الناس ما زالوا يقولون قولة هذ اللص إلى هذا اليوم: إما أن تنزلنا عن الصليب وترفع آلامنا وتخلص أجسادنا، وإلا فأنت بلا نفع، أنت أفيون للشعوب.
إن كل الناس ينقسمون إلى فريقين لا ثالث لهما: إلى خاطئ التجأ إلى المسيح فنال الحياة، أو إلى خاطئ ينكر المسيح فيبقى في الموت، والمسيح في الوسط. لا يوجد فريق ثالث. نحن لسنا خطاة لأننا نخطئ، لكن نحن نخطئ لأننا خطاة وحين نتبرر بدم المسيح، لا نصبح أبرارً لأننا نصنع البر، ولكننا نصنع البر لأننا صرنا أبرارًا. فمن أي نوع نحن اليوم؟
إن الذي حدث للصّ الذي نال حياة في المسيح، يعطي رجاء لكل إنسان. لأنه في آخر لحظات حياته نال الحياة الأبدية، إنه يعطي الرجاء لأشر خاطئ! لأنه حتى في اللحظات الأخيرة يوجد له رجاء متى وضع ثقته في المسيح. إن آمنت أنه مات عنك وقام لأجل تبريرك فستنال الحياة الأبدية.
قال اللص: "اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك." لكن المسيح قال له سآتي ثانية، ولكني لن أنتظر حتى آتي في ملكوتي، بل "اليوم تكون معي في الفردوس،" ويمكننا جميعًا أن نسمع هذه الكلمات: اليوم ننال حياة جديدة لو نظرنا إليه في ثقة وإيمان. إنه "مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا."

المجموعة: نيسان (إبريل) 2017