الدكتور صموئيل عبد الشهيد"فقال له يسوع: الحق أقول لك: إنك اليوم تكون معي في الفردوس." واغرورقت عينا الأم بعبرات صامتة تجسّدت فيها أحزان قلب كبير وأغمضت أجفانها تائهة في عالم بعيد وهي تتمتم:
"اليوم تكون معي في الفردوس." واستغرقت في صلاة عميقة خافتة.

كانت خيوط الليل تنسل بهدوء من النافذة المطلة على الحديقة. ولم يكن في البيت أحد سواها، بعد أن انصرف ابنها الوحيد نبيل مع بقية رفاقه ليقضوا سهرة العيد في أماكن اللهو. وظلت هي وحيدة بين أرجاء البيت تفكر بولدها الغارق في حمأة الخطية دون أن يأبه لصوت الضمير أو توسلات قلب أمه كي يكفّ عن اقتراف المعصية ويرجع إلى ربه فيحيا. وفي كل مرة كانت تحدثه عن خلاص نفسه كان يقول لها متأفّفًا:
أصغي إليّ يا أماه، أنت لك عالمك، وأنا لي عالمي، وأنا لا أتدخّل في شؤون حياتك ولا أحاول أن أعترض على صلواتك ومعتقداتك الدينية، فأرجوك أن تتركي لي حرية اختيار الحياة التي تروق لي.
ولكن، يا ابني أنت عبد للخطية... أنت ضائع.
إنني ألتذّ بما تسمينه خطية، وسرّ حياتي يكمن في لون الحياة التي أتعشّقها.
فتتطلّع إليه بأسى وتقول:
ولكني لست أراك سعيدًا أبدًا.
ويضحك دون أن يعبأ كثيرًا بألمها ويقبّل جبينها قائلاً:
اطمئني يا أماه فأنا بخير.
وتكاثفت أمواج الليل مع آخر الأصداء التي كانت تتجاوب في أعماقها، ولكنها لم تتحرك من مكانها لتضيء النور، وراحت يدها تعبث بفرو قطتها المنكمشة بجوارها...
"... اليوم تكون معي في الفردوس."
هذا ما قاله المسيح للصّ المصلوب... فهل يستطيع المسيح أن يقطع هذا العهد مع ولدها؟ ومتى يخرج ابنها من قبر الخطية كما خرج لعازر من ضريحه وكما انتصر المسيح على الهاوية؟ وأحسّت برغبة جارفة للصلاة... فصلّت وبكت.

قال نبيل:
ولكني لا أريد أن أذهب إلى الكنيسة.
فأجابه صديقه:
ألا تريد أن تراها؟ هيا بنا فهذه فرصة العمر.
إنني لم أطأ عتبة كنيسة منذ زمن بعيد.
كما تريد... ولكن هذا هو الحلّ الوحيد لرؤيتها والتعرّف إليها.
وتردّد نبيل برهة، ثم ابتسم وقال:
حسنًا، هيا بنا.
ولم يجدا لهما مكانًا إلا في المقاعد الخلفية، فجلسا قريبًا من الباب، وأحسّ نبيل أنه غريب عن الناس وحاول أن يتغلّب على هذا الشعور في البحث عن الفتاة، فرآها تجلس بجوار امرأة عجوز منحنية الرأس تصلي بخشوع، فأثر منظرها في نفسه، ونسي حيرته... وفجأة أفاق على صوت هادئ مؤثر أخذ يقرأ قصة صلب المسيح، وحين نطق بكلمات يسوع:
"يا أبتاه، اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون." سرت في جسده رعشة غريبة، واستيقظت في وجدانه ذكرى قديمة جدًا... يوم رأى جمهرة من شباب "العصر" يوسعون مبشرًا متجوّلاً شتمًا وإهانة، فيرفع المبشر عينيه إلى السماء مردّدًا كلمات يسوع. ولأول مرة في حياته تساءل:
هل أنا أعرف ما أفعله؟
وسمع الصوت يقول:
"الحق أقول لك: إنك اليوم تكون معي في الفردوس."
وفي لحظة تجمّع فيها الماضي، وتألّقت في نفسه رؤى كشفت عن بصيرته غياهب طالما ألقت ظلاً رهيبًا على حياته، وخيّل إليه أنه يستشرف على آفاق جديدة بلا حدود، أكبر من وجوده، عالم آخر أبهى وأروع... هو عالم الفردوس.
وراحت كلمات أمه توقظ في صدره كل رغبة حية نحو الخلاص وهمس: يسوع مات لأجل خلاصي... وأمي لا تنفك تصلي من أجلي... وأنا غافل عن محبة المسيح.

الساعة تعلن السادسة صباحًا.
وأجراس الكنائس تزف إلى الناس بشرى ذكرى "قيامة المسيح"، فنهضت الأم من سريرها واتجهت إلى حجرة ابنها لتزيح ستائر النوافذ كعادتها في كل صباح... ولكنها تسمّرت في مكانها حين رنّ في أذنيها صوت تمتمة خافتة، وانتابتها الهواجس والظنون وتردّدت ... وبعد برهة عبر الصمت المخيّم، تبيّنت بعض مقاطع من التمتمة:
"شكرًا لك يا رب، لأنك خلّصتني... هذه محبتك... ثبتني بالإيمان."
فدنت من الباب مسحورة وكأنها في حلم، ودفعته قليلاً وأطلّت... وإذا بها ترى ابنها جاثيًا بجانب سريره يصلي.
فخرّت على ركبتيها والدموع تنهمر من مآقيها وهتفت من كل جوارحها:
"ولدي قام مع يسوع من بين الأموات."
واندفقت حزمة من أشعة الشمس الذهبية إلى وسط الحجرة وترنّمت في أعماقها أجراس العيد.

المجموعة: نيسان (إبريل) 2017