الدكتور صموئيل عبد الشهيدأَلصَقَ "وحيد" جبهته بزجاج النافذة وأخذ يتطلّع إلى المدينة القائمة على سفح الجبل. كانت ظلال شاردة تزحف من عينيه إلى الأفق البعيد المتجهم، فتتجسد أمامه صور قديمة، كثيرًا ما حاول أن يهرب منها ويتناساها، ولكنه في هذه الليلة يشعر كأنه هناك قوة خفية تستبدّ بأفكاره وأحاسيسه وتدور به في دوامة مفرغة لا يدري إلى أين تقوده.

كانت الخواطر المجنونة تعصف بمخيلته بقوة وانفعال فيهزّ رأسه بين آونة وأخرى، وتتحرك شفتاه بكلمات مبهمة متقطعة كأنه يحدّث إنسانًا آخر يقف أمامه ساكنًا. ثم فجأة خيّمت عليه كآبة عميقة، وانتابته وحدة موحشة مزقت أعصابه فأنَّ أنينًا خافتًا كأنما نواح طفل صغير! ولم يفق "وحيد" من غفوة خواطره إلا على الثلوج التي تكاثفت على حافة زجاجة النافذة في تلك الساعة المتأخرة من الليل، فبدت لعينيه الشوارع المظلمة كأنها أشباح بيضاء تتكوّم بعضها على بعض بأشكال وصور غريبة، وخُيّل إليه أن شجرة الصنوبر النامية أمام البيت عملاق ضخم ينتصب في وجهه. وبقي "وحيد" برهة وجيزة يتفرّس في شجرة الصنوبر التي كستها ندف الثلج. أحسّ في تلك اللحظة أن الصور القديمة تمطت في خياله وابتدأت تتحرّك لتمزّق عن نفسها أكفان الموت، فأخفى رأسه بين يديه وصاح: "أنقذني يا إلهي!" وتجاوبت صرخاته في أرجاء الحجرة كحلم كئيب في الليل.
كان وحيد في تلك اللحظة أشبه بربان سفينة تائهة في غمار محيط أهوج، فتهالك على أول مقعد اعترضه، وظل جامدًا في مكانه كالصنم المنحوت، وانقضت بضع دقائق قبل أن يتلفّت حوله بقلق وحيرة، فوقعت أنظاره على صورة والده المعلّقة على الحائط بإطارها الأبنوسي الأسود. فأحسّ بقلبه يخفق بعنف واضطراب. وما لبث أن نهض عن المقعد ودنا من الصورة بحنان ومحبة. وتراءى لوحيد أن الحياة قد دبّت في الصورة من جديد، فارتعدت أوصاله من الرهبة وتراجع إلى الوراء. ثم ما لبث أن أجهش بالبكاء، فتفجّرت الدموع من مآقيه، دموع حزينة كئيبة بللت قميصه الأبيض. أدرك وحيد أنه مقبل على تجربة عنيفة طالما كان يخشى أن يتعرّض لها. ومرت به أطياف الذكريات التي حُفرت في ذهنه بإزميل حاد، كان قد ألقى بكل آماله وأمنياته على قارعة الطريق وتنكب سواء السبيل بعيدًا عن طريق الله؛ كأنما البذور الصغيرة التي زرعها والده في تربة نفسه قد جفّت وماتت، فدفن كل حياته في بؤر الخطية وأوكار إبليس. في تلك اللحظة كفنته سحابة مظلمة من الأسى، انبعثت منها أصوات غامضة أخذت تعذّبه وترهق أعصابه فلم يعد في وسعه حتى أن يفكّر.
وبأي شيء يفكّر؟ أفي الحياة؟
إن دوامة الحياة المتقلّبة قد طوّحت به إلى مهاوي الخطية كشيء تافه من القاذورات، ففقد كل ما يربطه بالحياة الشريفة الطاهرة. كم مرة أصغى في سكينة الليل إلى صوت والده وكأنه يحدّثه من وراء القبر تمامًا كما كان يفعل وهو على قيد الحياة، فيصمّ أذنيه عن سماع صوت الأبوّة الحنون ويوصد قلبه في وجه التوبة هاربًا من نفسه الجريحة وذكرى والده الذي يحبّه، فلا يجد وسيلة يغرق فيها همومه وحيرته إلا كأسًا من الخمر القوية التي تحلّق به إلى عالم من اللاشعور، أو يدفن عذاب ضميره في حمأة الشهوات الجسدية.
كان الكتاب المقدس الذي ورثه عن والده منزويًا في ركنٍ قصيٍّ من مكتبته، وكلما همّ أن يمدّ إليه يده يتملّكه خوف غامض من شيء مجهول، فتتدلّى يده إلى جانبه كأنها يد ميت. وكثيرًا ما كان يستيقظ في منتصف الليل على هاجس خفيّ فيفتح أجفانه ببطء، وينصت في الظلام إلى أية حركة تتردد في جنبات البيت، غير أن الصمت وحده كان يتقدّم بخطى متثاقلة من سريره، ولكن قلبه يظل يخفق، وتخفق أيضًا أفكاره المضطربة، ويدور عقرب الساعة ربع دورة قبل أن ينبلج الفجر وتتسلل خيوط الشمس الذهبية إلى حجرته، ويتساءل: هل هذه الحياة؟ أهذا هو مصيري المحتوم؟ ثم ترتسم أمام عينيه ألف علامة سؤال كبيرة!
ولكنه في هذه الليلة يشعر بأنه متعب جدًا. متعب أكثر مما يحتمل. كانت العاصفة تزأر في الخارج، إنما في أعماقه كانت تنوح عاصفة أخرى أشدّ وأرهب، فأحسّ بقلبه يتململ بين ضلوعه، وانهالت عليه صور جديدة أفعمت صدره بشعور عميق من القلق والتوتّر، وأحاطت به حلقة كبيرة من المرئيات لا يدري من أين تبدأ ولا إلى أين تنتهي، ولاحت له صديقته ليلى وسط الظلمات التي أحاقت به.
كان يخاف من ليلى أكثر من أي شيء آخر... ليلى بوجهها البريء الطاهر وابتسامتها المشرقة.
ليلى الفتاة المؤمنة التي تخلّت عن مجد هذا العالم في سبيل مجد سماوي أبدي! كان يخاف النور الذي يطلّ من عينيها، ونظرة العتاب الصامتة التي تمزّق أعصابه، فبالرغم من الظلمة القاتمة التي تخيّم على قلبه، كان يشعر بقبسات من نور ضئيل تبدد هذه الظلمة المتكاثفة. وهذا ما كان يعذّبه، إذ كان النور يعكس لعينيه حقيقة حياته الملوّثة بالوحل! في كل مرة كان يلتقي بها، يطرق برأسه إلى الأرض ويحدّثها دون أن يتطلّع إلى محيّاها، لئلا يقرأ قصة الحزن التي تطويها بين ضلوعها حين تراه غارقًا في الخطية.
ولكن اليوم، قبل بضع ساعات فقط، نظرت إليه نظرة طويلة، وقالت له:
ألم تعرف بعد الرب يسوع المسيح مخلصًا شخصيًا لك؟
فرمقها بعينين مذهولتين، ثم امتقع وجهه وأجابها بكلمات مبهمة:
أنا... آه... لا أدري ماذا تعنين.
اسمع يا وحيد: إن حياة الخطية التي تحياها هي كأذرع الأخطبوط التي تلتفّ حول جسدك لتعتصر منك كل قطرة من الدم. أنت تقتل نفسك يا وحيد، بل إن حياتك هي الانتحار بلا موت!
فتمالك أعصابه وقال لها:
يا ليلى، أنتِ تعلمين أنني إنسان خاطئ لا أستحق أيّ التفاتة منك، فأنت فتاة مؤمنة، طاهرة لم تلوّثك أدران الحياة بعد، ولم تتعثّري بالحفر التي نصبها لكِ إبليس، أما أنا... وضحك بكآبة غامرة مليئة بالأنين! فأجابته ليلى:
لا يا وحيد، كلنا أخطأنا... "الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله..." أنا وأنت! انظر إلى نفسك المتعبة، ألا تشعر بأن الجحيم قد فتحت شدقيها لكي تبتلعك؟ أنت تقف الآن على شفير هاوية مخيفة. وهذا ما يحزنني يا وحيد: اذكر حياتك الماضية تحت ظل رعاية والدك... ألا تذكر صلواته وتعاليمه؟ ألا يرفّ في أذنيك صوته الدافئ المؤثر وهو ينساب من بين شفتيه نابضًا بالحياة؟ أنت تذكر كل شيء، أليس كذلك؟ هل تذكر تلك الليلة التي سلّمتُ فيها قلبي للمخلّص بعد أن ألقى والدك على مسامعنا موعظة الخلاص؟ منذ ذلك الحين، يا وحيد، ابتدأت أشعر أنني إنسانة أخرى تختلف كلّـيًّا عن تلك الفتاة التي كان همها من دنياها ثوب رقص جديد، أو حفلة ساهرة في أرقى الملاهي. أما الآن فإني أنظر إلى الحياة نظرة أخرى مقدسة، وأضع المسيح المصلوب وحده نصب عينيّ.
ولكن يا ليلى...
لا تقل شيئًا يا وحيد، إنني أطلب منك وعدًا.
ما هو يا ليلى؟
أن تقرأ في هذه الليلة من الكتاب المقدس، هل تعدني؟
وغمغم بكلمات غامضة حائرة قبل أن يقول:
سأحاول.
حسنًا يا وحيد، وسأصلّي من أجلك.
وهكذا عاد وحيد إلى منزله كالمذهول!
وما أصعب أن يعتكف الإنسان وحيدًا حزينًا غريبًا حتى عن نفسه. وانطلقت خواطر تهاجمه بلجاجة وإلحاح. كان الشيطان يقف على جانب منه، والمسيح يقف على الجانب الآخر.
وفجأة كأنما عزم أن يقرر مصيره في هذه اللحظة، فتقدم من مكتبته ومدّ يده إلى الرفّ ليتناول الكتاب المقدس، وإذا بالرهبة من الشيء المجهول تكتنفه، فهتف من جديد:
أنقذني يا إلهي!
كان صوته حزينًا متوجّعًا، صوت قلب إنسان محطّم!
واستجاب الله لاستغاثة هذا القلب، وشعر بقوة غريبة تجتاح نفسه، فتناول الكتاب بسرعة خوفًا من أن يعاوده الضعف، وظل برهة يرنو إلى الكتاب المغبَّر بلا تفكير، ثم توجّه صوب سريره فأشعل المصباح، وقلّب صفحات الكتاب بين يديه، وابتدأ يقرأ.
قرأ... وقرأ... وقرأ... وتوقّف عند بعض الآيات التي أثّرت في نفسه تأثيرًا عميقًا. قرأ في متى 28:11 هذه الآية: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم." ومرّت به آية أخرى تقول: "لأن أجرة الخطية هي موت، وأما هبة الله فهي حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا." ثم وقعت أنظاره على آية الخلاص: "هوذا الآن وقت مقبول. هوذا الآن يوم خلاص." وردّد من بين شفتيه ببطء: هوذا الآن وقت مقبول. هوذا الآن يوم خلاص! الآن... الآن!
وهمس صوت في قلبه: نعم، الآن.
هدأت العاصفة في الخارج، وأشرق القمر من بين قطع الغيوم البيضاء المتناثرة، وهناك في حجرة معتمة بعض الشيء، كان شاب جاثيًا على ركبتيه، بيدين مرفوعتين نحو السماء، والدموع تنهمر من عينيه... دموع التوبة والخلاص.

المجموعة: شباط (فبراير) 2017