الدكتور ميلاد فيلبسهل تعلم أن الله أبونا؟ تؤكد كلمة الله أن "الله أبونا" (إشعياء 16:63)، ويقول الرسول بولس في رومية 15:8 "إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضًا للخوف، بل أخذتم روح التبني الذي به نصرخ: ’يا أبا الآب.‘" المهم أن جوهر الموضوع هو أن الله أبونا يريد أن تكون مشيئته على الأرض كالسماء ينعم فيها البشر بأجواء السعادة "كما في السماء كذلك على الأرض... واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا... ولا تدخلنا في تجربة، بل نجنا من الشرير. لأن لك المُلكَ، والقوة والمجد." (متى 9:6-15 ولوقا 11: 1-4) فالسماء هي النموذج والمثال.

قال أحدهم: لما مرّ الملك ببلدتنا أُضيئت البيوت من الخارج، ولكنك إذا ما دخلت تلك البيوت وجدتها مظلمة من الداخل. لذلك تفترض هذه الحياة التمجيد والتقديس والتسليم، والسبب الثاني أن العقيدة لا المعرفة هي أساس الأخلاق إذ لا يمكن أن ننتظر أخلاقًا سليمة من عقيدة فاسدة. لذلك أبوّة الله لها معانٍ روحية خاصة ترتبط بالإنسان وطعامه وسلامه وحياته، ويمكن أن نلقي ضوءًا عليها من خلال ثلاث كلمات:

أولا: العناية
"خبزنا كفافنا أعطنا اليوم" و "أعطنا اليوم"، أي ما يكفينا في غير تذمّر، أو خبز الكفاف أي "لا تعطني فقرًا ولا غنًى. أطعمني خبز فريضتي، لئلا أشبع وأكفر وأقول: من هو الرب؟ أو لئلاّ أفتقر وأسرق وأتّخذ اسم إلهي باطلًا." (أمثال 30: 8-9) إن خبز الكفاف هو الخبز اليومي أو خبز الغد أو خبز الغد أعطنا اليوم. هنا لنا وقفة مع اللغة الأصلية، فهناك ثلاث كلمات "أبيوسيوس اليونانية" و "لحمون دسنكتوا" السريانية و "أمنيو" السريانية القديمة. قد تفيد هذه الكلمات أنه خبز الملكوت الآتي حيث نتمتع بخبز السماء، أو الخبز الدائم، أو الخبز الضروري للوجود في الضيقة العظيمة (رؤيا 13 وأعمال 11)، "خبز الفريضة" (أمثال 8:30) أو الخبز الروحي، أو العشاء الرباني، أو خبز الغد كقوله "أشبعنا بالغداة من رحمتك،" (مزمور 14:90) كطلبة مسائية "ولا تهتموا بالغد لأن الغد يهتم بما لنفسه. يكفي اليوم شره". هذا الخبز "كفافنا" ينقلنا إلى خبز غير عادي أو إلى الدائرة الروحية "المنّ في البرية"، خبز كل صباح "وليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله"، والمسيح هو الخبز النازل من السماء الواهب حياة للعالم. إنه "خبزنا" بإضافة الضمير لقتل الأنانية والحسد.
إن المدبر السماوي قدم نفسه كراع "مدبِّر يرعى شعبي" (متى 6:2). يقال إن محل هارودز في لندن هو من أعظم عجائب العصر، حتى قيل إن من لا يزوره كأنه ما زار لندن. إن عنوانه التلغرافي: "كل شيء. لندن" لأنه مستعد أن يدبر لك كل شيء. أما الرب فرعايته دائمة، ومخازنه لا تنضب، ومع ذلك فإنك تأخذ كل شيء مجانًا لأن غناه لا يستقصى، وحكمته وقدرته غير محدودتين، وهو حاضر في كل مكان، وعادل مع الكل، ويضمن كفايتنا إذ يغفر ماضينا، ويدبر حاضرنا، ويرتب مستقبلنا؛ "بركة الرب تغني ولا يزيد معها تعبًا."

ثانيا: الرعاية
"لا تدخلنا في تجربة، بل نجِّنا من الشرير، لأن لك المُلك والقوة والمجد". أولاً، ما هو الفرق بين التجارب الإلهية والتجارب الشيطانية؟ إن الأولى لا تكون للخطية ولا تدفعنا للشر، بل نجرَّب في المادة، أو في موت أحبائنا، أو ضياع صحتنا، أو مشاكسة الأشرار، أو الظروف كما حدث مع أيوب. بينما الثانية هي الشك في الله وفي إسقاطنا في الخطية. الأولى للتأديب والثانية للشر والثالثة للهلاك. يظن الكثيرون أن البراكين تدل فقط على غضب الله ونقمته على البشر. لكن، أثبت العلم أنه لولا البراكين لانفجرت الأرض وتلاشت بسبب الضغط الجوي على الكرة الأرضية. إن للهلاك ثلاثة دركات: الأولى الإهمال، والثانية الرفض، والثالثة الاحتقار. لذلك لا تحتقر الأخ الضعيف الذي مات المسيح لأجله.
إن الرجاء مزيج من أخلاط ثلاثة: ضيق، فصبر، فتزكية. إن الضيق يتبلور فيصير صبرًا، والصبر يتطوّر فيصير تزكية، أي الطهارة والسلوك فيها والتزكية تكمَّل فتصبح رجاء (رومية 3:5-4). لذلك إذا لم تستطع أن تنظر أمامك لأن مستقبلك مظلم، ولا خلفك لأن ماضيك مؤلم، فارفع بصرك إلى فوق تجد الراحة والسكينة. إن المتفائل ينظر إلى الوردة ولا يرى أشواكها أما المتشائم فإنه يحدق بالأشواك فلا يرى الوردة. "لأنني عالِم بمن آمنت، وموقن أنه قادرٌ أن يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم." لذلك من الخطأ أن نحكُم بصحة طرقنا إذا خلت من التجارب والصعوبات. أراد أحدهم أن يوضح معنى الصليب فقال وهو ممسك بقطعتين من الخشب: "إن الخشبة الطويلة تمثل مشيئة الله، والخشبة الصغيرة مشيئتنا. إن وضعتهما معترضان ففي الحال ينتج الصليب، وهكذا التجارب تأتينا عندما لا نكون وفق مشيئة الله أو نتعارض معها." نعم، يا رب! "لأن لك المُلك والقوة والمجد".

ثالثا: الحماية
هناك أشياء لا تعملها المحبة: المحبة عكس الأنانية أو الذاتية "لا تطلب ما لنفسها"، والمحبة لا تكتب حسابات الإساءات والإهانات. والمحبة لا تفرح بأخطاء الآخرين أو الإشاعات. "لا تحتدّ" أي ليست سريعة للغضب، و "لا تظن السوء" أي لا تضمر العداء لأحد، وعكس الحسد أو الغيرة من الآخرين. "لا تتفاخر" أي لا تعتدّ بنفسها ولا يأخذها الغرور، و "لا تنتفخ" أو تتعظم، و "لا تقبِّح" أي لا تسلك بدون لياقة أو أقوال نابية، و "تفرح بالإثم" أو الغش والظلم. في النهاية "لا تسقط أبدًا"، أي لا يعتريها الفشل والإحباط. "واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا". تتلخص في محبة الآخر ليسهل إسقاط الديون ونسيان التعديات. الغفران هنا لا يعني بنفس القياس بل "كما في السماء كذلك على الأرض" كما أن الصفح الأبوي مجاني ومستمر وشامل، كذلك ليكن صفحنا على الأرض على هذا النحو. إنه ليس غفرانًا بالمساواة أي "تغفر لي فأغفر لك" بل انفصال الخطية عن المخطئ، لكن غفران الله يعني انتهاء الجزاء والعقاب كاملًا.
إن قوة المحب تظهر في عظائم الأمور، وصفو المحبة يظهر في صغائرها. لذلك ليس كافيًا أن نحب الآخرين، بل علينا أن نجعلهم يحسُّون بذلك الحب. للمحبة ثلاث وجهات: من الأعلى إلى الأدنى رحمة وحنانًا، ومن الندّ للندّ تصير صداقة ووفاء، ومن الأدنى للأعلى طاعة وولاء.
إن الغادر يمنع عن نفسه الرحمة (مزمور 5:59)، والمصر على الخطية يفقد سلامه (هوشع 4:2)، ومن يرفضون رحمة إخوتهم لا يتمتعون بأحشاء الرأفة. لذلك افعل الخير وتحمَّل الغير "فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس."
إن "المُلك" يشير إلى سلطان الله، "والقوة" تشير إلى القدرة على تنفيذ إرادة الله، "والمجد" يشير إلى حصيلة معجزات الله وأعماله.
تعوّد أحدهم أن ينهي صلاته العائلية بالصلاة الربانية، ويومًا ما قام من ركوعه قبل أن يتلو هذه الصلاة. فسألته زوجته: ماذا حدث؟ أجاب: إنني أشعر أنني لست أهلًا أن أصلي الصلاة الربانية اليوم. "ليتقدس اسمك" يا رب! أي أعنّا لنعطي لشخصك مكانًا فريدًا في حياتنا يليق بشخصك وصفاتك وطبيعتك.
إن الصلاة الربانية تحتوي على مجد الله، وحاجة البشر، والشكر، والطلب، والاعتراف، ثم الشكر والتمجيد. هذه هي نموذج صلواتنا لأنها تصل إلى أعماق الروح كما علّمها المسيح.
أخيرًا، ما هي الديانة؟ إن الدين هو الانسجام مع الأعلى، والتوافق مع الله، والتفكير والشعور السليم. إنه المحبة العملية والقداسة السلوكية وافتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس في العالم.

المجموعة: حزيران (يونيو) 2017