بعد أن كتب الرسول بولس عن الألم في مختلف صوره، قال هذه الكلمات الحلوة: "ولكننا في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا." (رومية 37:8) إن الألم هو من أهم أسرار الحياة، بل هو سر من أسرار سعادتها، لأن الألم والفرح صنوان لا يفترقان.

فلا يمكن لإنسان أن يفرح إن لم يتألم، إذ كيف يستطيع أن يدرك لذّة الفرح إن لم يسبقه ألم. فالظلام يعقبه نور، والمرض يعقبه شفاء، والفراق يعقبه لقاء، والزارع بالبكاء مجيئًا يجيء بالترنم يحمل حزمه، والموت يعقبه الخلود.
لماذا يسمح الله بآلامنا؟
لكن السؤال الخالد الذي يخطر ببال كل إنسان هو: لماذا يسمح الله لنا بالآلام؟ وهناك إجابات عديدة عن هذا السؤال:
قد يسمح الله بالألم كعقاب على الخطية كما يقول بطرس الرسول: "فلا يتألم أحدكم كقاتل، أو سارق، أو فاعل شر، أو متداخل في أمور غيره." (1بطرس 15:4) فالخطية تحمل عقابها في ثناياها: قديمًا قال آساف: "أما أنا فكادت تزلّ قدماي. لولا قليل لزلقت خطواتي. لأني غرت من المتكبرين، إذ رأيت سلامة الأشرار. لأنه ليست في موتهم شدائد، وجسمهم سمين. ليسوا في تعب الناس، ومع البشر لا يصابون." ولكنه يستطرد بعدئذ قائلاً: "فلما قصدت معرفة هذا، إذا هو تعب في عينيّ. حتى دخلت مقادس الله، وانتبهت إلى آخرتهم. حقًا في مزالق جعلتهم. أسقطتهم إلى البوار. كيف صاروا للخراب بغتة! اضمحلوا، فنوا من الدواهي." هذه هي عاقبة الشر، وهذا هو الألم كعقاب للأشرار.
وقد يكون الألم الذي نجتازه بحسب مشيئة الله كما يقول بطرس الرسول: "لأن تألمكم إن شاءت مشيئة الله، وأنتم صانعون خيرًا، أفضل منه وأنتم صانعون شرًا." (1بطرس 17:3) فالمؤمن لا بد أن يجتاز طريق الألم "لأنه ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة، وقليلون هم الذين يجدونه." (متى 14:7) "بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت الله." (أعمال 22:14) وكما يقول السيد له المجد: "في العالم سيكون لكم ضيق." (يوحنا 33:16) فالألم هو البوتقة التي تصهر النفس فتصقلها وتروّضها وتليّنها، وتخضعها لإرادة ذاك الذي اجتاز قبلنا طريق الآلام. "وجميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يضطهدون." (2تيموثاوس 12:3)
وفوق ما تقدم فالألم هبة من هبات الله. "لأنه قد وُهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط، بل أيضًا أن تتألّموا لأجله." (فيلبي 29:1) فالألم هو القنية الفاخرة الغالية التي هي أثمن من الذهب لأنها عطية الله. وكلما ازددنا شركة مع الله وتعمّقًا ازدادت هبة الألم تألّقًا. يقول الوحي عن بولس الرسول: "سأريه كم ينبغي أن يتألّم من أجل اسمي." (أعمال 16:9) فالألم هو الهبة الإلهية التي تجسّد إيماننا، وصبرنا ومحبة المسيح في قلوبنا أمام الناس.

سر الانتصار على الألم
ما هو سر الحياة الظافرة المنتصرة على الألم؟ يقول بولس: "ولكن شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين." (2كورنثوس 14:2) ويعود قائلاً: "لأننا في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا." وهناك طريق واضح للحياة الظافرة، وأول خطوة في هذا الطريق هي:

1- النظر إلى يسوع
لقد كان سيدنا، له المجد، رجل الآلام. قال عنه إشعياء: "محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع ومختبر الحزن... وهو مجروح لأجل معاصينا. مسحوق لأجل آثامنا." (إشعياء 3:53 و5) فمن أجلنا احتمل الآلام والصليب مستهينًا بالخزي، لكي نسير نحن وراءه حاملين الصليب.
فما أحلى يا نفسي أن يكون يسوع حلاوة في حلقكِ، وطهارة في عينيكِ! ما أحلى أن يكون هدوءًا في طبعكِ، وكمالاً في عقلكِ، وإيمانًا في قلبكِ. لقد شرب الرب قبلكِ كأس العذاب، فاشربي يا نفسي كأس آلامك بصبر واحتمال، وأنتِ ناظرة إليه. فيسوع الحلو رفيقكِ، وهو يعضدكِ بيمينه، هو أنيسكِ في وحدتكِ، هو شفاء لمرضكِ، هو عزكِ وفخركِ.
هذا هو سر عزاء المؤمن ونصرته في وقت تجاربه. كان إستفانوس يُرجم ووجهه يلمع كوجه ملاك، لأنه كان ينظر إلى يسوع في المجد. وكانت أرجل بولس وسيلا في المقطرة، ولكن ألسنتهما لم تسخط ولم تتذمّر، ولم تتلفّظ بالسباب، بل كانا يصليان ويسبّحان الله. وكان الفتية الثلاثة في آتون النار المتقدة، ولكن إيمانهم العظيم بالله جعلهم في سلام تام، ووجود الرب يسوع معهم حوّل النار إلى جنات وزهور... فهل ننظر إلى يسوع في آلامنا؟ كما يقول الرسول: "ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمّله يسوع، الذي من أجل السرور الموضوع أمامه، احتمل الصليب مستهينًا بالخزي، فجلس عن يمين عرش الله. فتفكّروا في الذي احتمل من الخطاة مقاومة لنفسه مثل هذه لئلا تكلوا وتخوروا في نفوسكم."

2- التفكير في المجد الأسنى
إن الخطوة الثانية في طريق الحياة الظافرة هي التفكير في المجد الأسنى. لقد تألّم موسى تاركًا عرش مصر، وقاد إسرائيل في البرية، لكنه انتصر لأنه كان ينظر إلى المجازاة. ويقول يعقوب: "طوبى للرجل الذي يحتمل التجربة، لأنه إذا تزكّى ينال إكليل الحياة." وبولس الرسول يقول: "فإني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا." "إن كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضًا معه." فهل فكرنا في الأكاليل التي تنتظرنا. هل فكرنا في الأمجاد المعدة لنا؟ إن التفكير في المجد الأسنى هو سر من أسرار الظفر والانتصار.

3- خدمة الآخرين
آخر ما أذكره في طريق النصر هو الخدمة. إن الألم هو مدرسة الإعداد للخدمة، فهو الذي يخلق فينا الإحساس مع الآخرين، ويملأ قلوبنا بالحنان، ويدرّب عواطفنا، ويسمو بأفكارنا فترتقي لأسمى الدرجات. فالألم هو بوتقة الله لإخراج الأواني النافعة للخدمة. والذين يضعون آلامهم في خدمة الآخرين يتعزّون.
قتل ملاكم في الصين مرسلاً، ونجا طفلاه وزوجته بأعجوبة. ثم سافرت الزوجة إلى أميركا ورعت الولدين حتى صارا طبيبين ماهرين. وفي يوم ما قالت لهما: اسمعا يا ولديّ، هيا بنا نذهب إلى الصين. قال الولدان باندهاش: يا ماما، نذهب إلى الصين التي قتلت بابا العزيز؟ قالت الأم القديسة: نعم يا ولديّ، سنذهب إلى هناك ونبني مستشفى لعلاج مرضى الصين، لأن في قلبي نارًا لا يطفئها إلا خدمة أولئك التعساء. وهكذا حوّلت المرأة أحزانها إلى خدمة جليلة، وذهبت مع ولديها إلى الصين لعلاج المرضى هناك.
فالآلام تصهرنا وتمحصنا، وتنقّينا لاستخدام قوانا وإمكانياتنا في أفضل أنواع الاستثمار، فليت نفسي تسير في هذا الطريق.

المجموعة: أذار (مارس) 2018