القس بسام بنورةمقدمة: ترسخ بين النّاس، بما فيهم الكثير من المسيحيين، اعتقاد مفاده أن المسيحيّة عبارة عن دين يتعلق بالأخلاق وبمجموعة من العقائد، وبالتّالي فإن الكتاب المقدّس هو أساس لحل المشاكل الأخلاقيّة والاجتماعيّة وللقيام بدور مهم في الحياة المسيحيّة.

والحقيقة أن مثل هذا الاعتقاد هو بكل بساطة خطأ فادح يقود الى الضلال والضياع. فالمسيحيّة هي شخص الرَّب يسوع المسيح ورسالته وما عمله ويعمله من أجلنا. أي أن المسيحيّة ليست دين نهائيًّا.
كذلك يظن معظم النّاس أن كلمة دين وكلمة مسيحيّة هما كلمتان مرتبطتان ببعضهما البعض، وبالتّالي فإن الإنسان المتديّن والغيور هو نفسه الإنسان المسيحي، في حين أن الحقيقة تختلف تمامًا. بل يمكننا القول بقوّة أن إعلان الله في الكتاب المقدّس هو نفي وإقصاء للدّين. وهكذا فالحديث عن نعمة الله هو بشكل غير مباشر إبطال لروح التديّن بين النّاس.
المصدر اللغوي لكلمة دين أو Religion:
1. في الّلغة العربيّة: الجذر الثلاثي لكلمة دين في الّلغة العربيّة هو الفعل "دانَ. وفي قاموس لسان العرب لابن منظور المصري نجد عدة معانٍ للدّين منها.
الدّين: الجزاء والمكافأة.
ويوم الدّين: يوم الجزاء.
وفي المثل: كما تدين تدان: أي كما تجازي تُجازى، أي تجازى بفعلتك وبحسب ما عملت.
ودانه دينًا: أي جازاه.
الدّين: الحساب.
الدّين: الطّاعة.
وقد دِنته ودِنتُ له: أي أطعته.
الدّين: العادة والشأن.
تقول العرب: مازال ذلك ديني وَدَيْدَني: أي عادي.
دان نفسه: أي أذلّها واستعبدها، وقيل: حاسبها.
الدّين لله: طاعته والتعبّد لله.
الدّين: الحال والسلطان والورع والقهر والمعصية والطاعة.
أي أنّ المعنى الّلغوي لكلمة دين لا يرتبط بالإيمان نهائيًّا، بل يرتبط بالحساب والعقاب والجزاء، والعادات، كما ويرتبط بإذلال النفس ومحاسبتها واستعبادها. ويتعلّق الدّين بالحالة الأخلاقيّة للإنسان من حيث قهر النّفس، والورع أو المعصية، والطاعة. وهذا التّعريف ينطبق على حالة النّاس بغضّ النّظر عن إيمانهم بوجود إله أو عدم إيمانهم، إلا إذا كان الدّين لله، أي طاعة الله والتعبّد له بغرض المجازاة وليس بغرض التعبير عن الإيمان أو عن محبّة الله.
2. في الّلغات الأوروبية: يتّفق معظم علماء الّلغة الأوروبيون أن أصل كلمة Religion في اللّغة الإنجليزيّة هي الكلمة اللاتينيّة religare والّتي جذرها كلمة religo. ويعرف جميع دارسي اللغات الأوروبيّة، أن الحرفين “re” تعني "ثانية" أو "تكرار"، وأن كلمة religare اللّاتينيّة فمعناها الّلغوي "ربط وشد وتقييد وضم واتصال". وهكذا فإن كلمة religion تعني شد أو ربط أو تقييد. وهذا الشد أو الرَّبط يشير إلى ارتباط أو تقيّد الإنسان بمجموعة من القوانين والأنظمة، والعادات، والتقاليد، والطقوس، أو المبادئ، أو العقائد، أو الروتين (الصّيغ أو الأعمال المتكررة).
في العودة إلى الإنجيل المقدّس، نجد أن الرَّب يسوع لم يأتِ لكي يقيّدنا أو يربطنا بأي شيء أو أي طقس أو عادة أو روتين. بل على العكس، فقد جاء الرَّب يسوع ليحرّرنا من عبوديّة الشّر والخطيّة، ولكي نعيش إنسانيّتنا بكل معنى الكلمة، ولكي يستطيع الله أن يعمل من خلالنا لإعلان مجده القدّوس.
قال الرَّب يسوع في يوحنّا 32:8: "وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ". ثم أضاف قائلًا: "فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الاِبْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَارًا" (يوحنّا 36:8).
وقال بولس الرسول بوحي من الله "فَاثْبُتُوا إِذًا فِي الْحُرِّيَّةِ الَّتِي قَدْ حَرَّرَنَا الْمَسِيحُ بِهَا، وَلاَ تَرْتَبِكُوا أَيْضًا بِنِيرِ عُبُودِيَّةٍ." (غلاطية 1:5) وهذه الكلمات جاءت في سياق الحديث عن قيود الدّين اليهودي.
وقد أكّد الرّسول على هذه الحقيقة في غلاطية 13:5 "فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا دُعِيتُمْ لِلْحُرِّيَّةِ أَيُّهَا الإِخْوَةُ"، فالله دعانا للحريّة وليس للقيود والطقوس، لذلك علينا أن نتذكّر أن "الرَّب فَهُوَ الرُّوحُ، وَحَيْثُ رُوحُ الرَّب هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ." (2كورنثوس 17:3)
وهكذا، لم يقل الرَّب يسوع نهائيًّا بأنّه جاء ليكون لنا دين، أو أن علينا أن نتمسّك بهذا الدّين ونتقيّد بقواعده ومتطلباته وأن ندافع عنه بالسّيف والقوّة والقتل وسفك دماء المعارضين لهذا الدّين. قال الرَّب يسوع في الإنجيل بحسب البشير يوحنّا 10:10 "فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ." والحياة الّتي جاء الرَّب يسوع ليعطينا إياها والّتي يريد لها أن تظهر فينا ومن خلالنا هي حياته، لأنّه هو "الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ." (يوحنّا 6:14) وقد كتب الرّسول يوحنّا عن تلك الحقيقة قائلًا: "مَنْ لَهُ الاِبْنُ فَلَهُ الْحَيَاةُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ابْنُ اللهِ فَلَيْسَتْ لَهُ الْحَيَاةُ." (1يوحنّا 12:5) وقد استخدم بولس الرّسول عبارة "الْمَسِيحُ حَيَاتُنَا" (كولوسي 4:3) ليبيِّن لنا أن المسيحيّة ليست دين، بل هي حياة الرَّب يسوع المسيح الظاهرة في كلمات وأقوال وأعمال كل من يقبله ربًّا ومخلِّصًا لحياته.

المجموعة: حزيران (يونيو) 2019