الدكتور صموئيل عبد الشهيدعندما أدرك يشوع أن أيام حياته على هذه الأرض قد قاربت على الفناء، استدعى إليه شيوخ شعب إسرائيل وقادة الأمة، واستعرض معهم بإيجاز تاريخ معاملات الله معهم منذ أن أخرجهم من أرض العبودية وحررهم من نير المصريين.

ثم وفاء بوعده، وهبهم ملكًا خالصًا لهم حسب ما تعهّد به لإبراهيم. وقد ألقى أضواءً ساطعة على سجل هذا التاريخ المذهل لكي يذكّر هذا الشعب بأن هذا الإله الذي لم يتخلَّ عنهم طيلة تلك السنوات هو أيضًا قادرٌ أن "يجلب عليكم الرب كل الكلام الرديء حتى يبيدكم عن هذه الأرض الصالحة التي أعطاكم الرب إلهكم." (يشوع 15:23)
لقد استغرق خطاب يشوع الذي ألقاه على القادة والشعب نحو أصحاحين من سِفره، عمد فيه إلى الموعظة والتحذير، والتنديد فضلاً عن الوعود الصادقة والأمينة التي في مقدور الرب الإله على إغداقها عليهم إن ثبتوا في إيمانهم، وعملوا بوصاياه، إذ أكّد لهم في الأصحاح 23 أن الله هو المحارب عنهم، والذي يكلأهم بحمايته ضدّ جميع أعدائهم. وحذّرهم بشدة من التخلّي عن عبادته، وانتهاك حرمة قداسته، ومن إعلان ولائهم لآلهة الأمم الأخرى لئلا يحلّ بهم آنئذ غضب الله وسخطه وعقابه. والواقع ما ورد في الأصحاحين 23 و24 هو مراجعة تاريخ إسرائيل منذ زمن إبراهيم حتى أواخر حياة يشوع، بل هو مختصر لبعض ما ورد في أسفار موسى.
وأوّل شيء طلبه يشوع من كل الشعب - كبيرهم وصغيرهم - أن يزيلوا من بينهم الأصنام التي حملوها معهم من مصر وما عبدوا منها في تجوالهم في برية سيناء، وقال لهم: "فاختاروا لأنفسكم اليوم من تعبدون: إن كان الآلهة الذين عبدهم آباؤكم الذين في عبر النهر، وإن كان آلهة الأموريين الذين أنتم ساكنون في أرضهم. وأما أنا وبيتي فنعبد الرب." وهذا هو بيت القصيد من كل خطابه.
كان يشوع آنئذ في موقف يعلن فيه صدق ولائه للرب، وهو موقف مشرّف، فسيرته كانت عربونًا حيًّا عن شدة إيمانه وتمسّكه بمواعيد الرب منذ بداية عهده في خدمة موسى. فهو لم يحِد عن طريق الرب، ولم يخلّ بأمانته، وهو الوحيد مع كالب بن يفنّة من الجيل الأول الذي صعد من أرض مصر بعد انعتاقه من العبودية، دخلا أرض الموعد. وقد أدرك يشوع قيمة هذا الفضل الذي أكرمه به الرب، وحافظ طيلة حياته على علاقته الصالحة به بعد تلك الاختبارات المجيدة التي شاهدها بأمّ عينيه في زمن موسى أولاً ومن ثمّ إبان حياته حتى في أحلك الظروف. وها هو الآن وقد شارف على نهاية حياته يتحدّى التيّار، ويعلن بثقة كاملة:
"وأمّا أنا وبيتي فنعبد الرب."
وأودّ هنا أن أشير باختصار إلى أهمية هذا الموقف في حياتنا المعاصرة. فالعالم الذي نعيش فيه اليوم هو عالم بعيد جدًّا عن عبادة الرب، مع أن عبادة الرب هي شهادة حيّة عن فائق محبته التي تجلّت على الصليب لفداء الإنسان الساقط المصفّد بعبودية الخطيئة. ومع أن الثمن كان باهظًا، لكن الرب الإله تجسّد آخذًا صورة عبد ليدفع ثمن دينونتنا وعقابنا، لهذا فإن:
عبادة الرب هي التعبير الأروع عن خليقتنا الجديدة التي في حدّ ذاتها؛ هي المرآة الصافية التي تعكس عمل الله في حياتنا الخاصة.
وهي أيضًا النور المشعّ الذي يضيء في بيوتنا، وفي كنائسنا، وفي المجتمع الذي نعيش فيه، فيرى الجميع قوة الله في تحرير النفوس الخاطئة.
وهي واجبة أيضًا لأن الله هو خالقنا وقد ميّزنا عن بقية الكائنات إذ صنعنا على صورته ومثاله فرفع من مقامنا، وحُقّ له كل عبادة.
وهي إعلان صارخ عن معاملات الرب معنا في حياتنا اليومية على الرغم مما نتعرّض له من ظروف قاسية، فهو يحارب عنّا، ويحفظنا من عدوّ الخير، ويدير شؤون حياتنا الحاضرة، وفوق الكل يُغدق علينا حبّه المقدس ويؤمّن لنا الحياة الأبدية.
لقد أدرك يشوع أمانة الله الفائقة وصدقها، لهذا تحدّى جميع الشعب وقال:
"أما أنا وبيتي فنعبد الرب" - حتى لو تخلّيتم كلكم عنه - فإني أقف ضدّ التيار حتى الموت.
هل أنت مستعدّ أن تقف ضدّ التيار؟
أرجو ذلك.

المجموعة: تشرين الأول (أكتوبر) 2019