Dr. Shahidورد في رسالة الرسول بولس إلى أهل أفسس 15:1-23 هذه الآيات المباركة:
"لِذلِكَ أَنَا أَيْضًا إِذْ قَدْ سَمِعْتُ بِإِيمَانِكُمْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ، وَمَحَبَّتِكُمْ نَحْوَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ، لاَ أَزَالُ شَاكِرًا لأَجْلِكُمْ،

ذَاكِرًا إِيَّاكُمْ فِي صَلَوَاتِي، كَيْ يُعْطِيَكُمْ إِلهُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَبُو الْمَجْدِ، رُوحَ الْحِكْمَةِ وَالإِعْلاَنِ فِي مَعْرِفَتِهِ، مُسْتَنِيرَةً عُيُونُ أَذْهَانِكُمْ، لِتَعْلَمُوا مَا هُوَ رَجَاءُ دَعْوَتِهِ، وَمَا هُوَ غِنَى مَجْدِ مِيرَاثِهِ فِي الْقِدِّيسِينَ، وَمَا هِيَ عَظَمَةُ قُدْرَتِهِ الْفَائِقَةُ نَحْوَنَا نَحْنُ الْمُؤْمِنِينَ، حَسَبَ عَمَلِ شِدَّةِ قُوَّتِهِ الَّذِي عَمِلَهُ فِي الْمَسِيحِ، إِذْ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ، وَأَجْلَسَهُ عَنْ يَمِينِهِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ، فَوْقَ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ وَقُوَّةٍ وَسِيَادَةٍ،
وَكُلِّ اسْمٍ يُسَمَّى لَيْسَ فِي هذَا الدَّهْرِ فَقَطْ بَلْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَيْضًا، وَأَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَإِيَّاهُ جَعَلَ رَأْسًا فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ، الَّتِي هِيَ جَسَدُهُ، مِلْءُ الَّذِي يَمْلأُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ."
هذا المقطع المقتبس من الكتاب المقدس بوحيٍ من الروح القدس هو أحد المقاطع الكثيرة الواردة التي تدور حول العلاقة الرائعة التي لا تنفصم ما بين الكنيسة والمسيح. ولكي نستوعب عمق هذه العلاقة لا بدّ لنا أولاً أن نورد بعض الأسماء والأوصاف التي لُقِّبت بها الكنيسة في الكتاب المقدس. وسأقتصر منها على ما هو معروف ومشهورٌ بين أوساط المؤمنين عبر العصور، لأن ذلك يُسعفنا على الإلمام بأهمية الكنيسة، وموقف الله منها، ودورها في المجتمع المعاصر. والواقع، إن مقالاً واحدًا لبحث مثل هذا الموضوع الشيّق، يعجز عن التوغّل في كل مغازيها، ومدى فاعليتها في المجتمعات البشرية، فضلاً عن الوشائج الروحية التي تربطها بالمسيح. إذًا:

أولاً، ما هي بعض الألقاب والأسماء التي وُصفت بها الكنيسة في الكتاب المقدس؟
باختصار شديد أقول: لقد دُعِيَت بجسد المسيح، وهيكل الروح القدس، والعروس، والمحبوبة، وسفيرة عن المسيح في هذا العالم الذي نعيش فيه، والمفدية. هذه من أهم الأوصاف والألقاب التي تعبّر عن نظرة الله إلى الكنيسة من حيث أنها "المختارة" التي تحمل رسالة الخلاص إلى جميع الناس في انتظار مجيء عريسها الفادي. من هنا نرى أن هذه الألقاب تنمّ عن مفهوم البُعْد الإلهي لدور الكنيسة، وهي وظيفة لا يتسنّى لسواها أن تقوم به على الأرض. ولئلا يسيء أحد فهمي، أو فهم تعريفي للكنيسة فإنني أقول: إن الكنيسة هي جماعة المؤمنين الحقيقيين الذين اختبروا نعمة المسيح في حياتهم، وحملوا منائر البشارة إلى العالم أجمع في كل عصر وزمان.

ثانياً، ما هو دور الكنيسة وأهميتها في هذا العالم؟
الكنيسة الناجحة هي كنيسة كارزة بالخلاص، ناشرة لنور الإنجيل، مجاهدة لربح النفوس، شاهدة على عمل الفداء الخلاصي. لها مواقف حيّة ضدّ تيارات الشرّ الروحية التي يجنّدها رئيس هذا العالم إبليس الرجيم فتقف ضدّ التيار، بل في الثغرة للدفاع روحيًا عن هجمات قوى الفساد، ولا سيما أن محاربتنا ليست ضدّ البشر، بل ضدّ أجناد الشر الروحية التي تستخدم كل ما لديها من وسائل لكي تهدم حصون البرّ والقداسة والإيمان، إن أمكنها ذلك.

ثالثًا، كيف يمكن للكنيسة أن تحقّق نصراً مؤزراً في حلبة هذا الصراع؟
نجد في المقطع الذي اقتبسناه أعلاه طائفة من المواصفات التي يجب أن تتمتّع بها الكنيسة الناجحة، منها: أن تكون محبّة للجميع ومؤمنة بخلاص المسيح (عدد 15)، وأن تكون ذات رسالة وإعلان واضح تدعو إليهما وفقًا لما نصّ عليه الكتاب المقدس (عدد 17). وليس ذلك فقط بل أن تكون عارفة ما هو رجاء دعوتها، وهو رجاء لا يوفره إلا شخص المسيح في الزمن الحاضر، وأيضًا في المستقبل الأبدي. وهذا لا يتأتّى من غير أن تكون لديها الاستنارة الروحية المبنيّة على إيمان حقيقي بفداء المسيح ومواعيده اليقينية التي لا ينالها أيّ عطبٍ. إن البصيرة الروحية هذه هي طاقة فعّالة تُسعفنا على الغوص لاكتشاف تلك الدُّرر والحقائق التي يُعْرب عنها الكتاب المقدس، بل هي سلاح يثبّت أقدامنا في مصطرع القتال الروحي ضدّ مكائد الشيطان؛ كما أنها هي الوسيلة الوحيدة التي تُعيننا على فهم وتقدير قيمة الرجاء، والميراث اللَّذَين لها في المسيح. وفضلاً عن ذلك، إن البصيرة الروحية أو الاستنارة الروحية تساعدنا على إدراك بعض عظمة قدرة الله الفائقة، وهي القدرة التي أقامت المسيح من بين الأموات، وأجلسته عن يمين العظمة الإلهية. هذه القدرة بالذات تُوهب لكل مؤمن اختبر نعمة المسيح وخلاصه وتمد الكنيسة، أي المؤمنين، بالسلطان الروحي على الأرض لدحر قوى الشر، وخالدة في الأبدية في شخص المسيح. (راجع أعمال 8:1؛ كولوسي 29:1 و20:3)

رابعاً، إن الكنيسة الناجحة هي كنيسة مقدسة، نقية وطاهرة
من جميع الشوائب، كعروس مزينة لعريسها، وقداستها نابعة من عمل التبرير الذي صار لها في المسيح يسوع.
هذه القداسة التي أذهلت النبي إشعياء عندما شاهد في رؤياه قداسة الله، فرأى نفسه، رغم كل الفرائض التي يقوم بها، والنبوءات التي أشهرها، والمواقف المشرّفة التي اتّخذها، وربما الكفارات التي قدّمها، رأى نفسه أمام قداسة الله كثوب ملوّث بالقذارة فأصابته رعدة، وخاف، ولكن الرب الإله الذي يعرف السرائر، مسح شفتيه بجمرة من مذبحه وقدّسه. وهكذا، فإن الكنيسة الحية الغالبة هي كنيسة مقدسة. فالله الذي نعبده هو قدوس.
"فمن مثلك بين الآلهة يا رب ومن مثلك معتزًّا بالقداسة." (خروج 11:15) لهذا فإنه يطالب المؤمنين الذين هم جسده أن يكونوا قديسين. "نظير القدوس الذي دعاكم، كونوا أنتم أيضًا قديسين في كل سيرة لأنه مكتوب: كونوا قديسين لأني أنا قدوس." (1بطرس 15:1-16) وهذه الآية مقتبسة من سفر الخروج 45:11؛ وفي سفر إشعياء نقرأ: "لأنه هكذا قال العلي المرتفع، ساكن الأبد القدوس اسمه." (15:57) وهو ذات اللقب الذي أطلقه الملاك جبرائيل على المسيح حين بشّر مريم بمولده. "القدوس المولود منكِ يُدعى ابن الله." (لوقا 35:1) لهذا على الكنيسة أن تعيش في سيرة تليق بالقداسة (تيطس 13:3). إن القداسة هي إحدى السمات الحتمية التي يجب أن تكون غالبة على السلوك المسيحي للأفراد والجماعات، والظاهرة المشعّة في كل تصرّفٍ، خفيٍّ أو معلنٍ. فالقداسة هي مطلب أساسي في نموّ الكنيسة، وقوّتها، ومواقفها، وشهادتها، فلا يعلق بها أي غبارٍ، لأن القداسة دليل غلبتها وانتصارها على وعثاء الشر والخطيئة.

خامساً، إن الكنيسة الناجحة هي كنيسة مضحية
تضع المسيح أوّلاً في حياتها واعتبارها. هذا ما فعلته الكنيسة الأولى في بدء نشأتها - كانت كنيسة مجاهدة تضحّي بكل غالٍ ورخيص. وتبذل النفس، وتجاهد لإعلاء كلمة الله أمام طغيان العبادة الوثنية والطقوس الصنميّة. لقد استهدفت في جميع مواقفها تمجيد اسم فاديها، ورفع لواء خلاصه غير مبالية بجميع الاضطهادات التي تعرّضت لها لأنها كانت تنظر إلى الموطن السماوي فكانت دعوتها الجوهرية ربح النفوس، وتمجيد اسم الرب الفادي. أما النتائج التي أسفرت عنها هذه التضحيات، فقد كانت تبهر الأبصار لأنها غلبت بفضل انتصار قائدها المظفّر.

سادساً، الكنيسة الناجحة هي الكنيسة المصلّية
إن الصلاة هي خط الاتصال المباشر بين المؤمنين والله. وهذا الخط لا يمكن أن ينقطع قط من جراء الظروف الجوية، أو العواصف والرعود، أو أي شيء آخر. فأبواب السماء مشرّعة أمام الكنيسة المصلية ومسامع الله دائمًا مصغية إلى طلبات القديسين، بل إن الصلاة هي أعظم سلاح في طاقة الكنيسة أن تستخدمه بفعالية أمام مختلف تجارب الحياة.
 إن الشيء الوحيد الذي يحول دون بلوغ الصلوات المرتفعة إلى عرش السماء هو الخطيئة. فهي المانع الوحيد الذي يحجب صلواتنا عن أن تكون بخورًا متصاعدًا أمام عرش الله. والكنيسة الناجحة تدرك ذلك، وتتقدّس أولاً، بمعنى أن تعترف بنقائصها وآثامها، وتتوب. عندئذ فقط تصبح مصاريع السماء مفتوحة. ولعلّ أهم ميّزة للصلاة الجماعية أن تكون بروح واحدة. هي روح الله القدوس الساكن في جسد المسيح الحيّ. فالكنيسة التي تفقد روح الصلاة، وتتقوقع حول نفسها، وتقطع خطوط الاتصال الروحي مع العرش الإلهي تفتقر إلى أيّة قوة، وتخسر المعركة وقد تؤول إلى زوالٍ مما يُحزن قلب الله، ويعرّض الكنيسة إلى دينونته.
أخي القارئ، لا فرق في ذلك إن كنت راعي كنيسة أو مجرّد عضوٍ فيها، فأنت جنديٌّ للمسيح، تخوض معركة متواصلة ضدّ مخططات سلطان هذا الهواء. فانتصب بعزّة وفخارٍ لأنك تخدم تحت لواء قائدٍ مظفّرٍ لا يمكن أن يتراجع أمام جحافل إبليس وقواته، والنصر محقّقٌ أبدًا.

المجموعة: تشرين الثاني (نوفمبر) 2019