"ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمّله يسوع." (عبرانيين 3:12)
في مطلع العام الجديد بكل ما فيه من أحداث، ومآسٍ وأفراح، ومفاجآت مضمرة في ضمير الغيب، ما هي توقعاتنا الشخصية وكيف علينا أن نستهلّ هذا العام؟

هل نبدأ هذا العام بالتعهدات، أو في التخطيط لمستقبلنا، أو في التصميم على تغيير بعض عاداتنا وتصرفاتنا التي لا تليق بالمؤمن المسيحي؟ هل نبدأ هذه السنة بالعمل على تنفيذ وعودٍ سبق لنا أن تعهدنا بها ثم أهملناها؟ ولماذا أهملناها؟ أكان ذلك بفعل تقصيرنا بالإيفاء بها؟ أم أننا لم نكن جدّيّين في تعهدنا؟ أم لضعفٍ فينا غلب على تصميمنا فأخفقنا في وعودنا؟
قد تكون هذه التعهدات جميعها رائعة في جوهرها ولها مساس مباشر في حياتنا على الأرض كمؤمنين، ولكنها في معظمها تعتمد على التصميم الذاتي، وعلى ما نعتقد أنه صالح لنا في مسيرة حياتنا اليومية. ولكن الكتاب المقدس يقول لنا أن هذه المبادرات هي نتائج تتوقف على الإنسان، لهذا كثيرًا ما يحالفنا الفشل في تحقيقها والعجز في تطبيقها. والسبب الرئيس هو أننا لم نبنِ كل هذه التعهدات والوعود على أساس راسخ لا يتغيّر. إنها نابعة من الذات، وحسن النيّة، والرغبة الصادقة، ولكنها تفتقر إلى عنصر هام مفقود لم ندرجه في هذه العهود والتصاميم. وهذا العنصر هو القوة المستمدَّة من رئيس الإيمان ومكمِّله.
ورد في نص الرسالة إلى العبرانيين في الأصحاح المذكور أعلاه هذه العبارة التي تبعث على التفكير: "لنطرح كل ثقلٍ والخطية المحيطة بنا بسهولة ولنحاضر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا..." وقد جاءت هذه الآية سابقة للآية المقتبسة التي هي موضوع هذا المقال لارتباطها بمصدر القوة الحقيقية التي تجعل المرء، ولا سيما المؤمن، قادرًا على إنجاز ما عزم عليه في خدمته الروحية. والواقع إن الحياة المسيحية هي حياة جهاد روحي مستمرّ طيلة وجود المؤمن في ميدان السباق على الأرض. والمشرف عليه، وصاحب سلطة المراقبة الذي يسجّل في ديوانه كل تصرّف من تصرفاتنا هو المسيح نفسه. لهذا يقول كاتب العبرانيين إن الهدف الذي أمامنا هو أن نبلغ شأوَ المسيح... ولكي نستطيع أن نسمو إلى هذا المستوى علينا دائمًا أن نكون ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمّله – وحده. والسؤال الهام هو: لماذا على أبصارنا الروحية أن تظلّ مركّزة على المسيح، والمسيح وحده؟ وللإجابة عن هذا السؤال أرغب أن أقتصر على ثلاث نقاط رئيسة لضيق المجال في هذا المقال:
أولاً، إنه المثل الأعلى للجهاد الروحي وفقًا لمشيئة الآب. لقد تجسد المسيح، وجاء إلى هذا العالم لتحقيق هدف واحد هو خلاص الجنس البشري، أي الإنسان المخلوق على صورته ومثاله. وهذا التجسد فرض على المسيح أن يكون مجرَّبًا بلا خطية، بمعنى آخر أنه تعرّض لكل ما يتعرّض له الإنسان فضلاً عن التجارب الأخرى الخاصة به وانتصر. لهذا، هو يدرك حقيقة تجاربنا، وآلامنا، والمصاعب التي تقف في طريق حياتنا، حتى تجربة الشعور بالوحدة، ولا سيما على الصليب حين تخلّى عنه تلاميذه وتركه الآب في لحظة حمل دينونة العالم، ولكنه قام ظافرًا وأنجز التعهّد. وفضلاً عن ذلك، أخضع نفسه لمشيئة الآب الذي أعلن من أعالي السماوات قائلاً: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت." كما أن المسيح لم يتردّد لحظة واحدة في إعلان الحق الإلهي للبشرية في كرازته وفدائه.
ثانيًا، ناظرين إليه لكي نقتفي خطاه ونتعلّم منه، ونسلك في نوره. وعندئذٍ نصبح نحن أيضًا نور العالم. بل سفراء عن المسيح مبشرين بالكلمة قولاً وفعلاً. عندما تحيد أنظارنا عن المسيح، نضلّ ونتيه في برية هذه الحياة، مما يترتّب عنه من مآسٍ وآلامٍ جسام. ولعلّ ما حدث مع المجوس الذين جاؤوا ليسجدوا للطفل المولود، وتوقّفوا عن متابعة النجم العجيب عندما بلغوا أورشليم، مما أدّى إلى تلك المذبحة الرهيبة لأطفال بيت لحم، يمكن أن يحدث معنا عندما نحن أيضًا نتوقّف عن النظر إلى المسيح مخلصنا ومرشدنا. إن المسيح هو بوصلة المؤمنين، ورائدهم، بل هو الراعي الصالح الذي يقود الخراف إلى المراعي الخضراء ويقيهم من هجمات الوحوش الضارية. إن تركيز أنظارنا عليه ينقذنا من فيافي الضياع والتشرّد. بل أكثر من ذلك، نصبح راسخين بالإيمان لأن لنا الثقة في أمانته وصدق وعوده.
ثالثًا، ناظرين إليه لكي نتبع خطاه إذ حيث يكون المسيح نكون نحن أيضًا معه. واتّباع خطى المسيح هو الأسلوب الأوحد الذي يحفظنا من الضلال، والضياع في طريق الحياة المعوجّة التي عبّدها إبليس والتي تقود حتمًا إلى الهلاك الأبدي. ففي المسيح طريق واحد يؤدي إلى الملكوت السماوي، أما الطرق الأخرى التي أعدّها إبليس، على الرغم من مظاهرها البرّاقة، وإغراءاتها الخدّاعة التي سلبت عقول وقلوب الكثيرين، فإن آخرتها وخيمة العواقب. قد يبدو لنا أن اتباع يسوع رئيس الإيمان يولّد لنا بعض الاضطرابات والمصاعب، ويثير علينا العداء من مناصري الشرّ السائرين في ركاب إبليس، ولكنه الطريق المفضي إلى أمجاد الملكوت.
إن رحلتنا المؤقتة في هذا العالم هي رحلة جهاد روحية ومن غير قوة المسيح التي تعضدنا بالإيمان به نخفق في تحقيق كل عهودنا، ووعودنا. أجل، الدرب شاق لأنه درب الصليب وقد مشى رئيس الإيمان في هذا الدرب، من قبلنا، وأنجز تعهده الأزلي الذي أشار إليه الكتاب المقدس الذي تمّ التخطيط له من قَبلِ تأسيس العالم، وكان محوره شخص الرب يسوع، فادي البشرية. وعندما نتوقّف عن النظر إلى هذه الشخصية الفذّة التي غيّرت وجه التاريخ، وأعادت للإنسان الساقط مكانته الرفيعة في نظر الآب السماوي، عندئذ نفقد هويتنا ونضلُّ في أرض اليباب. ولكن إن استمرت أنظارنا معلقة بالفادي الظافر ندرك بيقين ثابت أنه هو وحده الذي يقتادنا بنوره وفدائه، وتضحيته، ومحبته في دروب الحياة المظلمة المفعمة بالمشقة والجهاد. ويضحى في مقدورنا أن نفوز بهذا السباق لأننا قبل البدء به قد طرحنا عن أنفسنا كل ثقل الخطية وأي عائق آخر يمنعنا من متابعة الجهاد لبلوغ خط النهاية، وهناك، في آخر المطاف نجد فادينا في انتظارنا لكي يتوّجنا بأكاليل الفخار.
أجل في هذا العام، بل في كل عام، إن لم نواظب على النظر إلى رئيس الإيمان ومكمّله، نقع صرعى الضلال والموت الأبدي.

المجموعة: كانون الثاني (يناير) 2020