في وسطِ الضباب الكثيف الذي ملأ السماء صبيحةَ يوم ‏الأحد في السادس والعشرين من شهر كانون الثاني ‏المنصرم، حامت الطائرة المروحيَّةُ بسرعة مقدارُها مئة واثنان ‏وثمانون ميلًا في الساعة، لمدة خمس عشرة دقيقة علَّها ‏تستطيع الهبوط في المطار الصغير في كامارللو ‏Camarillo ‎‏ لكن دون جدوى.

وقرأ التسجيل تحذيرًا من ‏غرفة المراقبة يقول: لا نستطيع قراءتك إن وضعيَّتك أدنى ‏من الرادار لذلك لا نلتقطك. حذارِ، حذارِ! ارتفع... لكن لم ‏تمضِ دقيقةٌ واحدة على ذلك الإنذار حتى سُمع دويُّ انفجارٍ ‏هائل فوقَ تلالِ كالاباساس ‏Calabasas ‎‏ الساحلية في ‏ضواحي‎ ‎‏ مدينة لوس أنجلوس. وصاحب الارتطامَ الكبير ‏حريقٌ شبَّ في المروحية التي تبعثرتْ أجزاؤها المحطّمة بمَن ‏فيها من ركاب في دائرة شاسعة قرب المنطقة السكنية هناك. ‏وحين سُمع صوتُ الانفجار، اتَّصلَ عابرُ سبيل بغرفة ‏الطوارئ التي أسرعت سياراتُها في الحال إلى مكان الحادث ‏ليكتشفوا ما حصل من مأساة رهيبة وفاجعةٍ أليمة. وسرتِ ‏الأخبار بسرعة البرق لتعلنَ عن موت جميع ركاب المروحيّة ‏والبالغِ عددُهم تسعة. ‏

في ذلك الصباح الباكر عينِه، توجَّه كوبي براينت Kobe ‎Bryant‏ مصطحبًا ابنته جيانا إلى الكنيسة لحضور خدمة ‏العبادة والصلاة في مدينته التي يقطن فيها في نيوبورت ‏بيتش في كاليفورنيا. وفور الانتهاء من تناول القربان ‏المقدس، توجه لاعب كرة السلة العملاق والأسطورة البارز ‏مع ابنته إلى مطار جون وين ‏John Wayne‏ في منطقة ‏أورنج، فامتطى المروحية الخاصة به التي ستُقِلُّه مع ابنته، ‏المنتمية إلى فريق كرة السلة، إلى المكان الذي ستجري فيه ‏المباراة. وكان معه سبعةُ ركاب آخرين الذين كانوا مزمعين أيضًا على حضور ‏المباراة نفسها مع أولادهم. أما كابتين الطائرة فكان ‏متخصّصًا في قيادة المروحية ولديه خبرة واسعة لمدةٍ فاقت ‏العشرين سنة. لكنَّ ما حدث بعدَ ذلك كان لَمِن دواعي ‏الخيال، وليس الواقع! حتى إنَّ البعض من الذين سمعوا ‏بالحدَث المفجع لم يصدِّقوا بل توجهوا بسرعة إلى مكان ‏الحادث لينظروا بأمِّ العين ما حدث للاعب كرة السلة ‏المحترف ولابنته التي تحملُ ولعها بكرة السلة في حمضِها ‏النووي ‏‎ DNA‏. وحملتِ الأنباء خبر وفاة كوبي براينت ‏الأسطورة المعتزِل بعد عشرين سنة كاملة من انتمائه لفريق‏Lakers ‎‏ الشهير في لوس أنجلوس ولعبِه الدؤوب والمميز، ‏عن عمرٍ يناهز الحادية والأربعين، وابنته‏Giana ‏ ‏البالغة من العمر الثالثة عشرة، إلى جانب سبعة ركاب ‏آخرين قضوا جميعًا في اصطدامٍ مروّع لم يكن في الحسبان. ‏وهذا كلُّه حدَث بشكل متسارع  في خلال دقيقة واحدة من سقوط الطائرة المروحية ‏من جرَّاء اصطدامها بالصخور الصلبة على الأرض ‏فانفجرت بمَن فيها. ‏

في سرعة البرق وفي لمح البصر انتقل تسعة أشخاص من ‏حياةٍ مليئة بالحيوية والنشاط والتوقع، إلى اللاوجود. من ‏حالة الوعي والحسّ والانتباه، إلى جمود الموت المحتَّم. ترى ‏ماذا كان ردُّ فعلِهم حين علِموا قبل لحيظات فقط بالخطر ‏المحدِق بهم؟ هل استطاعوا أن يفكّروا عند ذاك؟ هل أدركوا ‏ما يحصل معهم وبهم ولهم؟ هل رفعوا قلوبهم إلى ربِّ ‏السماء التي كانوا يحلِّقون في أجوائها والتي بدت لهم بمثابة ‏غيمةٍ بيضاء كثيفة تحجُب الرؤية وتأبى أن تتلاشى؟ 

كوبي براينت ولد في فيلادلفيا في ولاية بنسلفانيا. كان والده ‏مدرِّبًا مشهورًا لفريق كرة السلة في إيطاليا التي انتقل إليها مع ‏عائلته حين كان بعدُ كوبي صغيرًا. وبدأ في التدريب على ‏الكرة منذ أن كان في عمر الثالثة. وفي سني المراهقة لعب ‏عدة مرات في فريق المدرسة التي كان ينتمي إليها. إلا أنه ‏لم يكن يحظى بتسديد الأهداف. لكنَّ والده المدرّب كان ‏يحضن ابنه الوحيد كوبي بعد كل لعبة ويهمس في أذنه: ‏"إنني أحبك، سواء سدَّدت خمسين هدفًا أو لم تسدِّد أبدًا." ولكن ‏بعد عودته واستقراره في بنسلفانيا، بدأ حبُّه لكرة السلة يزداد ‏وتأثر جدًا بـ مايكل جوردن وراح يتابع ألعابه المميزة ‏وضرباته السديدة. فصار واحدًا من عشّاقه. وحين أنهى ‏دراسته الثانوية قرر أن يصبح لاعبًا محترفًا. فتدرّب والتزم ‏بألعابه ومسابقاته إلى أن وصل فيما بعد إلى أن يلعب في ‏دوري الرابطة الوطنية لكرة السلة في العام 1996 في فريق ‏الليْكرزLakers ‎‏ المشهور في لوس أنجلوس التي صارت ‏مدينته. وانتقى لنفسه فيما بعد لقب "بلاك مامبا" ‏Black ‎Mamba ‎‏ تعبيرًا عن اندفاعه القويّ وحركته السريعة ‏ومثابرته ومواجهته الفذّة للوصول إلى الهدف. متخذًا من ‏الحيّة السوداء المعروفة في أفريقيا "مامبا" صفات الثبات ‏وعدم الخوف في وجه أي تحدٍّ. ‏

كان كوبي أبًا لبنات أربع، وحين سُئل: هل يمكن لابنتك ‏جيجي أن تلعب في مباراة مستقبلية كما لعبتَ أنت، ضحك ‏وقال: "بالتأكيد. ولما لا."

كان يؤمن بأنَّ لدى الفتيات ‏فرصًا كما للفتيان تمامًا. فمن خلال العمل الدؤوب والسعي ‏الدائم نحو الأحسن والأفضل يمكنها أن تصل إلى أعلى ‏المراكز. هذا هو الحلم وهذه هي الرحلة.

كان بالحق ‏مصدر إلهام لكثيرين ليس في كاليفورنيا أو الولايات المتحدة ‏فحسب بل حول العالم أيضًا. وفي إسبانيا قام فريق كرة ‏السلة بتقديم التحية له معبّرين عن حبهم له فتجمَّعوا في ‏الملعب بطريقةٍ هندسية جميلة شكّلتْ رقمَه في فريق الليْكرز ‏الذي كان (24). ‏

إنَّ ما يُستوحى من كلامه وأقواله من خلال المقابلات التلفزيونية ‏التي كان يقوم بها هو إيمانُه الصريح وتعبيرُه عن ذلك. إذ ‏حين سئل مرة عمَّا تعلَّمه من جرَّاء تجربةٍ مرَّ بها وعانى ‏منها الكثير، قال بعينٍ دامعة: "إن الله عظيم، يريدك أن ‏تحملَ الصليب يوميًا وتتبعَه. وحين تسقط هو مستعد أن ‏يحمل صليبك ويحملَكَ أنت أيضًا ويعبُرَ المحنة معك. ‏عندها تتأكد أن الله عظيم فعلًا." ولما سئل عن طريقة ‏معاملته لزوجته التي يحب وبناته اللاتي المولع بهن قال: ‏‏"عليك أن تقود من خلال ما يرونَ فيك من مثَلٍ صالح. ‏فالكلامُ دون عمل غير مجدٍ." ‏

أما الواعظ والكاتب المعروف عالميًا الدكتور والقس رافي ‏زكارياس، الهندي الأصل، والأميركي- الكندي الجنسية ‏فقد كتب في صفحته في وسائل التواصل الاجتماعي ما ‏يلي: "كنتُ في الفيليبين حين سمعت الخبر الصادم خبر ‏موت أكبر لاعب لكرة السلة كوبي براينت وابنته جيانا ‏بالإضافة إلى سبعة آخرين حين اصطدمت مروحيتُه ‏الخاصة بتلال لوس أنجلوس. وهكذا ذهب إلى القبر عن ‏عمرٍ يناهز الحادية والأربعين. وللغرابة أقول: كنت في ‏ذلك اليوم أستعدُّ للتكلم في مانيلا في اجتماع الفطور السنوي ‏الذي دُعيتُ إليه من خلال مستضيفي ‏Manny ‎Pacquiao‏ الذي هو من أكبر المعجبين بكرة السلة. كان ‏موضوعي عندها عن السماء والأرض تزولان، أما كلمة ‏الرب فهي تثبت إلى الأبد. ثم استطرد: هذا الفقدان ‏المفاجئ يجعلنا جميعًا نفكر بالواقع وهو أنَّنا على موعد لا بدَّ ‏آتٍ يومًا تنتهي فيه حياتنا هنا على هذه الأرض. فالحياة ‏هي هبةٌ من الله. الحزن والألم يمنعاننا من التعبير الصحيح، لكن لا يبعداننا عن الواقع الحتمي. ليت الله يعطينا معرفة ‏لكي نُحصي أيامنا فنؤتى قلب حكمة. ويا ليت كلمة الله ‏الأبدية تبعث التعزية في قلوب أهالي وعائلات الضحايا ‏جميعًا." ‏

وهنا علَّقت إحداهن على نفس الصفحة بعد هذا البوست ‏لتقول: "اعتدتُ على الذهاب إلى درسٍ للكتاب المقدس منذ ‏سنين خلَت. وكان كوبي براينت ملتزمًا جدًا في حضور ‏درس الكتاب معنا. كان مؤمنًا حقيقيًا لكن في بعض ‏الأحيان يقع الواحد منا في فخ إبليس ويُجرَّب. إلا أنه ‏سرعانَ ما يزحف خارجًا ويطلب الغفران من الله ليعود إلى ‏عمق الشركة معه. وهذا ما فعلَه براينت."‏

وهذا ما يأتي بي إلى ختام حديثي هذا عن اللاعب ‏الأسطورة كوبي براينت "بلاك مامبا" الذي كان مصدر ‏إلهام لكثيرين وكثيرات ومدرب جدِّي وصارم في تدريبه إذ ‏كان دائمًا يحثُّ اللاعبين على الأداء الأفضل والأحسن لأنَّ ‏الكسل لم يكن أحد بنود جدول أعماله البتة.  والآن، هل ترانا ‏نتعلم من شخصياتٍ كهذه الالتزام والمثابرة والاجتهاد ‏والجديّة في حياتنا ليست العملية فقط بل في علاقتنا مع الله ‏أي في حياتنا الروحية؟ بمعنى، هل نحن مستعدّون أولًا ‏للقاء إلهِنا؟ فالموت يداهم الكبير والصغير، وفي ساعةٍ لا ‏يظنُّها أحد!  تمامًا كما حصل ويحصل في كل يوم. هل ‏تعترف يا صديقي بأنك بالحق تحتاج إلى خلاص الفادي ‏المسيح؟ يقول الكتاب المقدس: "إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم ‏مجد الله." ويقول الرب يسوع: "إن من يسمع كلامي ‏ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة ‏بل قد انتقل من الموت إلى الحياة." (يوحنا 5: 24) وهكذا ‏تكون مستعدًا في أية لحظة للقاء الرب في أي وقت يدعوك ‏فيه. ثم، هل نتقدّم نحن المؤمنين ونزداد في معرفة مخلصنا ‏وفادينا؟ عندها وعندها فقط، نكون فعلًا يا أصدقائي قد ‏عرفنا كيف نُحصي أيامنا هنا على هذه الأرض فنؤتى ‏قلب حكمة. فلا تضيّعْ حياتك أو لا تجعلْها تذهب هباءً، ‏بل لتكنْ ذات قيمة ومعنىً ليس في هذا العالم فقط بل ‏عندما ننطلق للقاء فادينا الأمين. حياتنا بخارٌ ومهما ‏طالت فما هي البصمات التي نتركها وراءنا؟ أو ما هو ‏الإرث الذي نمنحه للأجيال القادمة؟‏

المجموعة: أذار (مارس) 2020