في بعض أوساط المؤمنين المهتمين بالنهضة والانتعاش تتردّد مقولة بأن: "استجابة الله بالبركة تأتي دائمًا بعد منتصف الليل!"

والذي دعاهم لهذا القول هو ملاحظتهم أن معظم رجال الله الذين نالوا من الرب استجابات عظيمة وبركات كبيرة لحياتهم ولكنائسهم كانوا دائمًا يسهرون في صلواتهم إلى ما بعد منتصف الليل.
وإن كانت هذه الملاحظة صحيحة إلى حدٍّ بعيد وتُشير إلى حقيقة مهمة إلا أننا ينبغي أن نأخذها على عواهنها لأن البعض قد يفهمها بشكل خاطئ.
فلو فهمنا بأن معناها هو أن الرب لا يستمع إلى صلواتنا التي نرفعها في أثناء النهار فهذا بلا شك خطأ، ولو ظننّا أنها تعني أن الصلاة التي نرفعها ونحن مُتعبين ومُرهقين تكون لها قوة أعظم من الصلاة التي نقدّمها عندما نكون مستريحين ومنتعشين فهذا أيضًا خطأ، إن الله ليس قاسيًا حتى يحوِّل صلاتنا إلى عملية كفارية مؤلمة أو يستمتع برؤيتنا نعاقب أنفسنا بالتشفّع!

الإرادة الجادة
لكن الحق الموجود في هذه العبارة هو أن البركة الروحية تأتي فقط للقوم الذين يريدونها بإصرار ومواظبة وإرادة جادة حتى أنهم على استعداد لانتظارها إلى ما بعد منتصف الليل، أما الذين لا يُثابرون في طلبتهم ويُفضّلون راحة الجسد على انتظار الروح فهؤلاء عادة لا ينالون شيئًا، إن الله قد يتأنّى في استجابته حتى وقت متأخر ليس لأن الليل له فضل في حدّ ذاته بل لأن الله يحبّ أن يمتحن مدى جدية إرادتنا.
إن كل إنسان هو مقدّس ومبارك بالقدر الذي يريده تمامًا، قد لا يكون بالقدر الذي "يتمنّاه" لكنه بكل تأكيد بالقدر الذي يريده فعلاً! كثيرون يُظهرون أشواقًا ملتهبة ورغبات ضخمة ويشتكون أن الله لا يستجيب لهم بحسب أشواقهم الكبيرة، لكن الله لا يتعامل مع أشواق عاطفية سرعان ما تخبو أو تتحوّل إلى أغراض أخرى. إن الله يتعامل مع إرادتنا الجادة التي تمتلك فينا كل القلب حتى لا نستطيع أن نحيا بدونها، وهذه الإرادة الجادة تكون عادة أقل بكثير من حجم أشواقنا السطحية! إن الله يستجيب لنا بحسب ما هو موجود في إرادتنا وليس ما هو موجود في خيالنا أو مشاعرنا.
من السهل أن "نرغب" في البركة و"نشتاق" للحياة المنتصرة لكنه شيءٌ مختلف تمامًا أن نسعى في طريقها... شيءٌ مختلف تمامًا أن نأخذ صليبنا عمليًّا ونتسلّق هضبة "إنكار الذات" القاسية المظلمة لنُصلَب هناك. هذا يحتاج إلى إرادة جادة مكرَّسة... هنا نجد أن كثيرين يُدعَون وقليلين يُنتَخَبون، وفي مقابل كل واحد يعبر عمليًّا إلى أرض الموعد يوجد آلاف يقفون على الشاطئ يتطلّعون بشوق عبر الأردن، ولكنهم لا يجرؤون على عبوره ويعودون أدراجهم ليستأنفوا تيههم في البريّة!
لقد تكلّم ربنا – له المجد – عن هذا الحق عندما قال: "طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ لأنهم يُشبعون." (متى 6:5) إن الجوع والعطش من الغرائز العميقة جدًا في نفس الإنسان وليست مجرّد مشاعر سطحية، وعندما يزيد الجوع أو العطش في داخل الإنسان يتحوّل إلى ألمٍ جسديٍّ حقيقي وقد يؤدي إلى الموت! لقد اختبر عدد لا يُحصى من رجال الله أنه عندما تحوّلت طلبتهم إلى ألمٍ حقيقيٍّ يمزّق أعماقهم نالوا الاستجابة! إن الله قد يتأنّى علينا حتى تتحوّل جميع رغباتنا إلى رغبة واحدة! ينتظر حتى نكفّ عن طموحاتنا الجسدية ونطأ الشبل والثعبان الموجودين بداخلنا... حتى ندوس تنين الذات المتشعّبة في أعماقنا... حتى يصبح الله هو طلبتنا ومنتهى رغباتنا... عندئذ وعندئذٍ فقط يستجيب لنا الله بملء البركة.
أحيانًا نرى هذا يحدث فيما بيننا... أحد الإخوة تتضخّم أشواقه الروحية غير المشبعة وتصبح كبيرة جدًا حتى أنها تطغى على كل اهتماماته الأخرى، يبدأ يبحث في الكنائس على شبع لجوعه فيصطدم بأوضاع تقليدية باردة لا تروي غليله، وإرادته الجادة في السعي نحو البركة تجعله يرفض التأقلم على الصلوات التقليدية الجوفاء التي يُقدّمها الإخوة "المجمّدين" الذين على استعداد أن يقولوا نفس الكلام أسبوعًا بعد أسبوع وسنة بعد سنة بدون أي تغيير... إن ألم الرغبة الجائعة بداخله لا تسمح له بترف هذه العبادة الروتينية! سيبدأ يصرخ من الألم صرخات غير مألوفة لإخوته، وخروجه عن المألوف سيُسبِّب له معاناة كثيرة، وسيقوم الإخوة المتقدّمون بتوبيخه، لكنّه مثل الأعمى الذي كان يسعى خلف نور عينيه سيصرخ أكثر كثيرًا! وعندما تصل طلبته إلى كمالها ستأتي إجابة الله ولو بعد منتصف الليل!
لا يوجد فضل خاص للصلاة في الساعات المتأخرة من الليل، لكنها من الناحية الأخرى قد تُشير إلى ذهنٍ يقظٍ وإرادةٍ جادّة تصرّ على أن تصلّي صلاة تتعدّى المألوف وتُطالب بغير العادي، واستجابة الله لن تتأخّر كثيرًا على مثل هذه الصلوات المرفوعة بألمٍ في جوف الليل!

المجموعة: آب (أغسطس) 2022