لست أكتب اليوم لأنظم عقود المديح للمسيح، فإن إحساس العجز يتولّاني، لأن لغة البشر أعجز من أن تحدّ مجده،

ففن البناء أفرغ جهده ليشيّد أعظم الكاتدرائيات اللائقة به، ومع هذا فإن الفن لن يستطيع أن يوفيه حقه. والرسم في بدائع صوره لا يجد النموذج العالي الذي يصحّ أن يزيّن مقدسه! والموسيقى وقفت تستوحي أخصب خيالها حتى تنظم أشجى أناشيد حمده! واستوعب النحت كل مناجمه ليظفر بقطعة الرخام الناصع ليصوِّر بها غرّة جبينه! والروائع في فم أفصح الخطباء تنطلق سهامًا ذهبية حتى توضّح مدى كرامته...
ولكني أرسم لكم اليوم يسوع الوحيد الذي ليس مثله. ما أتفه العلوم إن لم يكن لنا علم يسوع! وما أقلّ قيمة كنوز المعرفة إن لم "تمتلئوا من معرفة مشيئته، في كل حكمة وفهم روحي لتسلكوا كما يحقّ للرب، في كل رضى، مثمرين في كل عمل صالح، ونامين في معرفة الله، متقوّين بكل قوة بحسب قدرة مجده..." وما فائدة العلم إذا لم نبصر قدرة الله ظاهرة في مبدعاته؟ وما الفائدة في نهاية المطاف إذا لم نرَ في الميكروسكوب عظيم عنايته، وفي التلسكوب عظيم سلطانه، وفي الرياضة والعلوم طرقه التي لا تُحصى، وفي علم الموسيقى جماله الباهر، وفي علم الجيولوجيا الأحجار التي تشهد له؟
وما أبخس الثمن الذي نبيع به مستقبلاً زاهرًا مجيدًا إن لم نلبّ في حياتنا نداء الحق كما هو معلن في المسيح، فنجد طريق الحياة ونحصل على القوة؟
نعم، "لأن عنده ينبوع الحياة." وهو الذي يسكب قوته على كياننا الضعيف فتتغيّر حياتنا رأسًا على عقب.

سلطانه على أجسادنا
يسوع وحده يجب أن يكون صاحب السلطان على أجسادنا، فإن جسدنا هيكلٌ للروح القدس، ويجب أن نقدّم أجسادنا ذبيحة حية مقدّسة مرضية له، نمجّد الله في أجسادنا... فإن المسيح هو "مخلّص الجسد" (أفسس 23:5). وعندما يصبح المسيح صاحب السلطان على أجسادنا يصبح الجسد المنظور صورة صادقة للجمال الباطني الذي لا يُرى وعرشًا تتربّع عليه الفضيلة، ويصير صديقًا وفيًّا للروح، مظهرًا أمجاد الملكوت السماوي!
والمسيح ينفّذ أغراضه العظيمة بواسطتنا... إن رجليه لا تمشيان في شوارعنا، لكن أرجلنا ينبغي أن تنفّذ قصده... وعيناه لا تتطلّعان إلى العالم، لكن أعيننا تعمل عمله... وصوته لا يُسمع بيننا، ولكننا ينبغي أن نكون ألسنةً له!
والله الذي سار قديمًا مع المؤمنين لكي يسيروا كجيشٍ بألوية مخضِعين العالم لملكوت المسيح، هو الذي يحيا فيك فترى معالم الطريق واضحة أمامك، فتعرف الحق وتصل إلى أسمى أهدافك: "إذًا لا تملّكنّ الخطية في جسدكم المائت لكي تطيعوها في شهواته، ولا تقدّموا أعضاءكم آلات إثم للخطية، بل قدّموا ذواتكم لله كأحياء من الأموات وأعضاءكم آلات برّ لله."
أعطِه السلطان الكامل على جسدك وسوف يتكفّل بكل حاجاتك الزمنية والروحية، إذ يجعل لك من فيض بركاته مخزنًا يسدّ كل إعوازك، مثلما أشبع الآلاف من غداء غلام، وكما أخرج من فم السمكة ما دفع به الجزية... واعلم أنه إذا سمح لك بامتحان فإن [كوار الدقيق لا يفرغ، وكوز الزيت لا ينقص] فإن الذي أمر الغربان أن تعول إيليا أيام القحط يعولك، والذي عال الشعب في البرية فلم تتورّم أرجلهم في المسير ولم تبلَ ملابسهم من طول المدة يحفظك، ذلك لأنه قال: "لا أهملك ولا أتركك."

سلطانه على أفكارنا
لقد رفع المسيح الأخلاق فوق الشهرة، والديانة فوق الطقوس، والجوهر فوق المظهر، والحقيقة فوق الظلّ... وهو يريدنا أن نفتح له أبواب الفكر.
استطاعت الدولة الرومانية أن تضيّق الخناق على جسد يوحنا المنفي، ولكنها لم تستطع أن تضيِّق الخناق على فكره، فرأى السماء الجديدة والأرض الجديدة التي يسكن فيه البرّ... ذلك لأن المسيح كان صاحب السلطان على فكره!
استطاع جون بنيان وهو في سجنه أن يجول جولات فسيحة في السماوات والأرض فتتخطّى أبواب السجن، وكتب كتاب "سياحة المسيحي" الذي هو أفضل كتاب بعد الكتاب المقدس!
فإذا داهمتك الحيرة فإن يسوع المسيح يريحك، وإذا ساورتك المخاوف فإن المسيح ينصرك، وإذا أصمّ أذنيك الضجيج والصخب فإن المسيح يعطيك سلامًا، وإذا كنت مثقلاً بالأحمال فإنه يرفع الحمل عن ظهرك، وإذا أحاطت بك الأحزان والوحشة والفراق فإن المسيح يمنحك التعزية.
سلّم له مقاليد فكرك، لأن كل حكمة وكل قوة وكل سلام وكل فرح مذّخر لك فيه، فهو وحده "المذّخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم."
هل تعرف كيف وقف مارتن لوثر ثابتًا لا يهاب محاكمة ولا يخشى سجنًا؟ لأن المسيح كان مسيطرًا على أفكاره.
وقد وقف كالڤِن فوق منبره في جنيف يتحدّى مقاوميه أن يضربوه بالرصاص إن أمكن، وهو قابض على كتابه المقدس، لأن المسيح كان مسيطرًا على تفكيره...
بل إن سبرجن جبار المنبر كان يحلّق في سماء البيان كنسر مندفع في الأجواء العلويّة لأن المسيح كان صاحب السلطان الكامل على تفكيره.
وفوق الكل انظر إلى بولس الرسول، ذلك الشخص الفذّ الذي عارك التجارب وعركته ولاقى كل صنوف المخاطر والمتاعب، جال في أنحاء العالم مناديًا بالمسيح المخلص الوحيد... كيف استطاع هذا؟ اسمعه يقول: "إني أحسب كل شيء نفاية من أجل فضل معرفة المسيح... لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه."

المجموعة: كانون الأول (ديسمبر) 2022