"فأنتُم أيُّها الأحبَّاء، إذ سبَقتُم فعرفتُم، احتَرِسُوا من أن تنقادُوا بِضَلالِ الأردِياء، فتَسقُطُوا من ثباتِكُم. ولكن انْمُوا في النِّعمة وفي مَعرِفَةِ ربِّنا يسُوع المسيح.

لهُ المجدُ الآنَ وإلى يومِ الدهر. آمين." (2بطرس 17:3-18) "واللهُ قادِرٌ أن يزيدَكُم كُلَّ نِعمَة، لِكَي تَكُونُوا ولكُم كُلُّ اكتِفاءٍ كُلَّ حِينٍ في كُلِّ شيءٍ، تزدادونَ في كُلِّ عمَلٍ صالِحٍ." (2كورنثُوس 8:9) "وأمَّا يسُوع فكانَ يتقدَّمُ في الحِكمَةِ والقامَةِ والنِّعمَةِ عندَ اللهِ والنَّاس." (لوقا 52:2)
إن كانَ يسُوع، الذي هو الله معنا، الكلمة المُتَجسِّد، وكانَ يحتاجُ أن ينمُوَ في النِّعمَةِ، فكم بالأولى نحتاجُ نحنُ المَفدِيُّون من الهلاك أن ننمُوَ في النِّعمة وفي معرِفَةِ ربِّنا يسُوع المسيح؟
والحَقُّ يُقالُ أنَّ الرَّبَّ يسُوعَ عندما وصلَ إلى مرحَلَةِ إعلانِ هُويَّتِه، يقُولُ عنهُ يُوحنَّا: "والكلمةُ صارَ جسدًا وحلَّ بينَنا، ورأينا مجدَهُ مجدًا، كما لِوَحيدٍ منَ الآب، مملوءًا نِعمَةً وحَقًّا." إن كانتِ النِّعمَةُ هي عطيَّة من الله للإنسان بدونِ استحقاق ولا جدارَة إنسانيَّة، بل بدافِعِ المحبَّةِ المِعطاءَةِ الإلهيَّة، فهل يبقَى لنا أيُّ دورٍ في الحُصُولِ على النِّعمة؟ بما أنَّ الكتابَ يتكلَّمُ عن أنَّ اللهَ قادِرٌ أن يزيدَنا كُلَّ نِعمة، يعني أن هُناكَ زِيادَةٌ ونُقصان، وأنَّ هُناكَ فرقٌ في مُستَوى النِّعمة، ترتبِطُ باختِلافاتٍ رُوحيَّة بينَ إنسانٍ وآخر. وهكذا فإنَّنا نحتاجُ أن ننمُوَ في النِّعمَة بسبب:

1- انعِكاسات السُّقُوط: سقوط الإنسان سقُوطٌ كامِل لدرجةِ أنَّهُ لم يتبَقَّ فيه أيَّةُ ذرَّةٍ من القُدرة على تخليصِ نفسِهِ، فوُجبَتِ النِّعمَةُ الإلهيَّة. من هُنا، على قدرِ السقُوطِ الكامِل، ينبَغي أن يكُونَ كمالُ النِّعمَةِ، ليسَ فقط النعمة المُعطاة من الله، بل التي ينالها الإنسان التائب. يقُول بولس في رومية 20:5-21 "وأمَّا النامُوس فدخلَ لِكَي تكثُرَ الخطيَّةُ. ولكن حيثُ كَثُرَتِ الخطيَّةُ ازدادَتِ النِّعمَةُ جدًا. حتَّى كما ملكَتِ الخطيَّةُ في المَوت، هكذا تملِكُ النِّعمَةُ بالبِرّ، للحياةِ الأبديَّة، بيسُوع المسيح ربِّنا." عندما حاوَلَ مايكِل أنجِلو رسمَ لَوحَةِ العشاءِ السِّرِّي، طلبَ أن يَرسُمَ نسخًا عن نماذِجَ بشريَّة. فأتَوهُ بشابٍ جميل الطلعَةِ بريءَ القَلبِ، ورسمهُ كنمُوذَجٍ لِشخصِ المسيح. وبعدَ أن رسمَ الأحدَ عشرَ رسُولًا وأرادَ أن يرسُمَ الرسُولَ الثانِي عشر والأخير، ألا وهُوَ يهُوذا الإسخريُوطي، أتَوهُ بِشابٍّ حطَّمتهُ الخطيَّةُ فبدا وكأنَّهُ أبشعَ مخلُوقٍ على وجهِ الأرض. وبعدَ أن قضى مايكل أنجِلو أُسبُوعين يتفرَّسُ في وجهِه، عرفَ فيهِ الشابَّ الأوَّل الذي اتَّخذَهُ مثالًا ليسُوع. هذا هُوَ السقُوط!

2- استِحالة الجُمود: الإنسان يُحِبُّ أن يُخلِّدَ نفسَهُ ويُجمِّدَها عندما يكُونُ في المرحَلَةِ التي يُحبُّها. فلو كانَ هذا مُمكِنًا لجمَّدَ الناسُ أنفُسَهُم وخلَّدوها وهُم في الثامِنَةِ عشرة. هكذا أحبَّ الغَنيُّ أن يُجمِّدَ نفسَهُ عندما جمعَ ثرواتِهِ بعدَ أن هدَمَ خزائنَهُ القديمة وبنى أُخرى جديدة. وهكذا تساءَلَ بُطرُس: "كم مرَّةً يُخطِئُ إليَّ أخي وأغفِر لهُ؟ هل إلى سبعِ مرَّات؟" لقد طلبَ جوابًا مُحدَّدًا، لكي يُحدِّدَ ويُجمِّدَ طاقتَهُ على الغُفران، ويُطلِقَ بعدها العنانَ للانتقام. لقد حاوَلَ الشعبُ الخارِجُ من مِصر أن يقعُدوا ويتجمَّدوا أمامَ جبلِ سيناء، حيثُ كانَ اللهُ يتكلَّمُ من على رأسِ الجبل ببُروقٍ ورُعُود، حيثُ أعطاهُم اللهُ الوصايا العشر التي ظنُّوها مُحدَّدة، وحيثُ أشبعَهُم اللهُ منًّا وسَلوى في البَرِّيَّة. ولكن عندها، "الرّبُّ إلهُنا كلَّمنا في حُوريب قائِلًا: كفاكُم قُعُودٌ في هذا الجبل." (تثنية 6:1) إذا كُنتَ تظُنُّ - أيُّها المُؤمِنُ - أنَّهُ بإمكانِكَ أن تثبُتَ في النِّعمة بدونِ نُمُوٍّ مُستَمرٍّ، فأنتَ تحلُم...

3- مخاطِر التراجُع: يظُنُّ المُؤمِنُ أحيانًا أنَّهُ بإمكانِهِ التراجُع في مَسيرتِهِ الرُّوحيَّة، مُتساهِلًا معَ بعضِ الخطايا التي يُحِبُّها، ظانًّا أنَّهُ سيُعوِّضُ التراجُعَ بالنُّمُوِّ لاحِقًا. قد يكُونُ هذا مُمكِنًا عندما ينحَصِرُ التراجُعُ بالاستنكاف عن التضحيات الإيجابِيَّة في الخدمة، كما حدَثَ معَ يُوحنَّا مرقُس الذي هربَ من مشاقِّ العملِ الإرسالي في قُبرُص ورجعَ إلى أُمِّه. وفيما بعد قَبِلهُ الرَّبُّ مُجدَّدًا واستَخدَمَهُ. ولكن عندما يعني التراجُعُ الانغماس في الخطيَّة، فسيكُونُ الثمنُ باهِظًا، لأنَّ الرجُوعَ للخطيَّة هُوَ إهانَةٌ للنِّعمة ودوسٌ لدمِ المسيح المُهراق. فكِّرُوا بِشاوُل المَلِك، مسيح الرَّبّ، الذي بعدَ سُقُوطِهِ، لم يرجِعْ أبدًا إلى العلاقَةِ الحيَّةِ معَ الله. وفكِّرُوا بعِيسُو الذي بعدَ أن استباح المُقدَّسات وباعَ بُكوريَّتُه، لم يجد للتوبَةِ مكانًا معَ أنَّهُ طلبَها بدُمُوع. من أجلِ هذا نحتاجُ أن ننمُوَ في النِّعمَةِ لندرَأَ مخاطِرَ التراجُع.

4- عناد الإرادة: أفضَلُ مِثالٍ كِتابِيٍّ للصراعِ بينَ النِّعمَةِ الإلهيَّة والإرادَةِ الإنسانيَّة هو يعقُوب. عاشَ في الإيمانِ الممزُوج معَ الحكمَةِ البَشريَّة لسنواتٍ طويلَة، ولكن عندما تعِبَ من إنسانِهِ القديم، تصارَعَ معَ الله في مخاضَةِ يبُّوق، قائِلًا لهُ: "لن أُطلِقَك إن لم تُبارِكني"، إلى أن كسَّرَ الربُّ كِبرياءَهُ وغيرَّ اسمَهُ وقلْبَهُ. وحدَها النِّعمَةُ تستطيعُ تحطيمَ كِبريائِنا وبِرِّنا الذاتِي وحكمتنا الناقِصة وعنادِ إرادتِنا.

5- شراسَة المُنافَسَة: ما أكثَرَ المُيُول والدوافِع التي تتنازَعُ على استئسار قلبِ الإنسان وتملُّكِه. وحدَها النِّعمة تستطيعُ أن تغلُبَ المُنافِسينَ وتُعطينا فُرصَةً للانتصار الرُّوحي، وذلكَ بالسلُوكِ بالرُّوح كما يُعرِّفُ بُولُس النِّعمَةَ في غلاطية 4:5، 16-18: "قد تبطَّلتُم عن المَسيح أيُّها الذين تتبرَّرُونَ بالنامُوس. سقطتُم من النِّعمة... وإنَّما أقُولُ: اسلُكُوا بالرُّوح فلا تُكمِّلوا شهوَةَ الجسد. لأنَّ الجسدَ يشتَهي ضِدَّ الرُّوح والرُّوحُ ضِدَّ الجسد، وهذان يُقاوِمُ أحدُهُما الآخَرَ، حتَّى تفعَلُونَ ما لا تُريدُون. ولكن إذا انقدتُم بالرُّوح فلستُم تحتَ النامُوس."
نحتاجُ أن ننمُوَ في النِّعمَة، لِكَي نتمكَّنَ من حَسمِ المَعرَكَةِ الطَّاحِنَة التي تتنافَسُ فيها قوى الشَّرّ مع إرادَةِ اللهِ الصالِحَة تجاهنا، على استئسار قُدراتنا.

6- مُتَطلِّبات الخدمة: ما أعظَمَ حاجات العالم الرُّوحيَّة التي لا يُدرِكُونَها هُم، ولكنَّنا نحنُ نُدرِكُها. "ارفعُوا أَعيُنَكُم وانظُرُوا الحُقُول إنَّها قدِ ابْيَضَّتْ للحصاد..." "فاطلُبُوا من رَبِّ الحصادِ أن يُرسِلَ فعلَةً إلى حصادِه." "وارحَمُوا البعضَ مَميِّزين. وخَلِّصُوا البعضَ بالخَوفِ، مُختَطِفينَ من النَّار، مُبغِضِينَ حتَّى الثوبَ المُدَنَّسَ من الجَسَد." (يهوذا 23) نحتاجُ أن ننمُوَ في النعمة لنُلبِّي مُتطلِّباتِ الخدمة، التي لا يُمكِنُ للإنسان المُؤمِن أن يُلَبِّيها بِدُونِ أن يَفيضَ عليها الربُّ بنعمتِه.

7- مَنهَجِيَّة الوُصُول: لقد رتَّبَ اللهُ أن نُولَدَ رُوحيًّا في هذا العالم، وأن ننمُوَ في النِّعمة تدريجيًّا، إلى أن نَلتَقِيَ معَ ابنِهِ على سحابِ السماء. "ولكن لِكُلِّ واحِدٍ منَّا أُعطِيَتِ النِّعمَةُ حسبَ قِياسِ هِبَةِ المسيح... لأجلِ تكميلِ القدِّيسين لعَمَلِ الخدمة، لِبُنيانِ جسدِ المسيح، إلى أن ننتَهِيَ جميعُنا إلى وِحدَانِيَّةِ الإيمان ومَعرِفَةِ ابن الله. إلى إنسانٍ كامِلٍ. إلى قِياسِ قامَةِ ملءِ المسيح." (أفسس 7:4، 12-13) لهذا فإنَّ لقاءَنا مع المسيح الآتي على السَّحاب، هو تتويجٌ لرحلةِ نُمُوِّنا في التَّعمُّق في اختِبارِ نعمَتِهِ في حياتنا.

المجموعة: كانون الأول (ديسمبر) 2022