"بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ، وَكُلُّ مَا فِي بَاطِنِي لِيُبَارِكِ اسْمَهُ الْقُدُّوسَ. بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ، وَلاَ تَنْسَيْ كُلَّ حَسَنَاتِهِ.
الَّذِي يَغْفِرُ جَمِيعَ ذُنُوبِكِ.

الَّذِي يَشْفِي كُلَّ أَمْرَاضِكِ. الَّذِي يَفْدِي مِنَ الْحُفْرَةِ حَيَاتَكِ. الَّذِي يُكَلِّلُكِ بِالرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ. الَّذِي يُشْبعُ بِالْخَيْرِ عُمْرَكِ، فَيَتَجَدَّدُ مِثْلَ النَّسْرِ شَبَابُكِ." (مزمور 1:103-5)
لا يتضمّن المزمور 103 أية صلاة، أو طلبة من الرب، بل هو عبارة عن تسبيحة حمدٍ وشكر، فاض بها قلب المرنم، معبِّرًا عن امتنانه وتقديره لصلاح الرب، ولكلّ صفاته.

يبدأ المزمور في الأعداد، 1 و2 بمباركة الرب من أعماق نفسه، وكلِّ جوارحه. ويختمه في الأعداد، 20-22 بأن يطلب من كلّ الكائنات في الخليقة، وأجناد الملائكة، والبشر أن تشاركه تسبيح الرب وشكره. ونحن كبشر ضعفاء ميّالون بطبيعتنا الخاطئة لنكران المعروف، ونسيان فضل الرب وبركاته علينا، لذلك يحثّنا داود على أن نتذكّر حسنات الرب دومًا، ولا ننسى أفضاله. يشدِّد المرنم في هذا المزمور على حزمة ثلاثية من حسنات الرب هي الغفران، والرحمة، والعدل:

غفران الرب
غفران الخطايا، هو فاتحة بركات عمل المسيح الفدائي. ولكن ماذا يعني غفران الخطيئة؟ تشمل كلمة "غفران" - بحسب يونانية العهد الجديد - إعفاءً من ديون أو خطايا، وصفح، وإلغاء عقوبة يستحقّها شخص مذنب. ولكن كيف يتمّ ذلك؟ عندما يغفر الله، فهو لا يكتفي بالتعاطف مع الشخص المذنب، بل إنه يفتح سجلاتنا ويصرّح بأنه صفح عن ذنوبنا ومحاها. فالغفران ليس مجرّد مشاعر وأحاسيس، بل هو وعد وتعهُّد. عندما يقول الله: "أنا أنا هو الماحي ذنوبك لأجل نفسي، وخطاياك لا أذكرها" (إشعياء 25:43)، فهو لا ينسى، بل هو يقرّر أن لا يذكر خطايانا. إذًا فغفران الله هو وعد يتعهّد به الله بعدم ذكر خطيئة شخص ما ضدّه. بمعنى أنه لن يستحضر تلك القضية أمامه، ولا أمام الآخرين في المستقبل، أي أن الله لن يستخدم خطايانا ضدّنا. " كبعد المشرق من المغرب أبعد عنّا معاصينا". (عدد 12) يؤكد داود ذلك بقوله في مزمور 1:32-2 "طوبى للذي غُفر إثمُه وسُترت خطيّته. طوبى لرجل لا يحسب له الرب خطيّة."

رحمة الرب ورأفته
إن كلًّا من كلمتَيْ رأفة ورحمة مشتقتين من الجذر العبري: "حسيد"، التي تستخدم بمعنى رأفة، ولا يقصد بها مجرّد عواطف أو مشاعر، بل تتضمّن فِعلًا يقوم به شخص ما تجاه شخص آخر محتاج، فالكلمة تصف رغبة شخص ما في تقديم محبة وتعاطف وشفقة لشخص محتاج للعون. "... الذي يكلّلك بالرحمة والرأفة." (عدد 5) أما عند استخدام كلمة "حسيد" بمعنى رحمة فالمقصود بها: إظهار طول الأناة، واللطف والشفقة التي تجعلك تغفر لشخص ما مذنب ومستحق للعقاب، وتعفو عنه، مع أنك قادر على معاقبته. أو بمعنى قضائي: الرحمة هي إظهار القاضي عفوًا، أو تخفيفًا لعقوبة شخص مدان، وإعفاؤه من السجن أو الإعدام. نجد تطبيق مبدأ الرحمة في قول بولس: "ولكن الله بيَّن محبّته لنا، لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا... لأنه أن كنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه، فبالأولى كثيرًا ونحن مصالَحون نخلص بحياته!" (رومية 8:5 و10)

عدل الرب وإنصافه
إن عدل الرب تجاه المظلومين هو من أبرز صفات الله التي يتغنّى بها المرنم في العديد من المزامير. "الرب مجري العدل والقضاء لجميع المظلومين." (عدد 6) "لأنك أقمت حقي ودَعْواي. جلست على الكرسيِّ قاضيًا عادلًا." (مزمور 4:9) قد لا يظهر العدل واضحًا في هذا العالم الساقط الشرير، ولكن الله ما زال جالسًا على العرش يحكم بعدل، وقد اختبر داود عدله وأمانته عندما كان هاربًا مظلومًا من أعدائه، فأنصفه الرب وردّ اعتباره، لذلك نجده يذكر عدل الله في العديد من المزامير كقوله عن الله: "أبو اليتامى وقاضي الأرامل، الله في مسكن قدسه." (مزمور 5:68)
فالرب إلهنا يستحق أن نقدِّم له كل الشكر والتسبيح والسجود والإكرام في كل حين من أجل شخصه وصفاته، وما فعله من أجلنا في المسيح حيث كنا أعداء، فتراءف علينا، ورحمنا ومنحنا غفرانًا لخطايانا.

المجموعة: تشرين الثاني (نوفمبر) 2022