يتولّد الشكر والامتنان في قلب الإنسان وفكره عندما يرى الأمور الإيجابيّة في حياته وفي حياة الآخرين أيضًا. فالشكر هو حالة قائمة ومستمرّة في حياة الإنسان

 وليس كلمات يردّدها في ظروف معيّنة ولا تعبّر عن حالة قلبه. ينتج الشكر من التفاعل الفكري مع ما تراه العين وتسمعه الأذن ويتحسّسه الإنسان بالذي يجري حوله. فإن وضع الإنسان نفسه في الأجواء الإيجابية، فطبيعي أن يبرز الشكر والامتنان.
يقول الدكتور Gary Small مدير مركز طول العمر Longevity Center في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، وخبير الذاكرة وصحة الدماغ بشكل عام "إن المتفائلين يعالجون الضغط النفسي أحسن من المتشائمين وهم أقل عرضة من غيرهم للاكتئاب. عندما يكون للإنسان آفاق إيجابية فهذا سيخفّض مستوى الضغط النفسي ويدعم الصحة الجسديّة والعاطفيّة. إن الجزء الجبهي والصدغي من الدماغ frontal and temporal lobes يديران عدة مشاعر تفاؤليّة، كما أن دراسات الـ MRI تظهر أن شبكة دماغ الناس المتفائلين تساعدهم على التأقلم جيّدًا مع المحن." لكن الحياة مليئة بالأمور السلبية والإيجابية معًا. ليس كل ما نراه ونسمعه ونتحسّسه سلبيًا بل هناك إيجابيّات. فإن كنّا نريد أن نختبر بركة الرب وقوّته في وسط المخاوف، فلندرّب نفوسنا وعقولنا لنرى الجانبين، أو بالأحرى لنرى الصورة كاملة لا متجزأة، والوسيلة الصحيحة لرؤية الصورة الكاملة هي أن نراها بالمنظار الإلهي عندما نقترب إلى الله.
في وسط خوف الإنسان واضطرابه لا يقف الله متفرّجًا، بل هو بحكمته وعلمه السابق بكل ما سيواجه كل إنسان يهيّئ ويذخر جودًا وبركة لأولئك الذين يخافون الله ويتوكّلون عليه رغم الظروف القاسية التي يمرّون بها. وعندما يدرك المؤمن هذه الحقيقة ويتعرّف على ما ذخّره الله لخائفيه وصنعه للمتكلين عليه يمتلئ قلبه بالشكر والحمد والامتنان - حتى وإن لم تتغيّر الظروف في توقيت الإنسان. فثقة المؤمن بمحبة الله وصدقه المنزّه عن الكذب تجعله مطمئنًّا وفي سلام عالمًا أن كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله والمدعوّون حسب قصده.
في المزمور ۳۱ يبدأ داود باستعراض مخاوفه وطلب حماية الرب وقيادته له (ع 1-8). ثم يتابع في الأعداد 9-13 بوصف الوضع المأساوي الذي يعيشه ويطلب رحمة الرب على نفسه، أو بمعنى آخر يطلب تدخّل الرب ليغيّر الواقع الذي يراه داود. أمّا الأعداد ۱٤-۱۸ فيبدو أن داود استسلم للوضع المزري وقال للرب "في يدك آجالي"، إذا انتهيت أنا من هذه الحياة لا تدع الأشرار يتكبّرون ويتجبّرون.
انزلق داود بتفكيره في الأمور السلبية فقط ولم يرَ للحظةٍ ما قد صنعه الله وذخّره له حتى التفت إلى الجانب الإلهي من الصورة ورأى الحقيقة في نظر الله العارف والمتحكّم بالماضي والحاضر والمستقبل. كما قال آساف لاحقًا "حتى دخلت مقادس الله". وعندما نظر بالمنظار الإلهي رأى صورة مختلفة ووجّه اللوم إلى نفسه على إنزلاقه فقال: "وأنا قلت في حيرتي: [إني قد انقطعت من قدام عينيك.]" لكن عندما رأى الصورة كما يراها الله صرخ "ما أعظم جودك الذي ذخرته لخائفيك، وفعلته للمتكلين عليك تجاه بني البشر!"
لفتتني في هذه الصرخة ثلاث كلمات: "الذي ذخرته"، فهناك بركات عظيمة للمؤمن قد أعدّها الرب، هي موجودة لكن على المؤمن أن يتقدّم ويأخذها. والكلمة الثانية "وفعلته"، أي أن الرب يعمل في الخفاء لتحقيق هذه البركات للمؤمن. والكلمة الثالثة "تجاه بني البشر"، أي أن العالم من حول المؤمن يرى جود الرب وإحسانه له. فالرب يهيّء بركات للمؤمن، ويحقّق هذه البركات في الحياة، فيراها كل الناس.
المؤمن الذي يعيش في كنف القدير يختبر سلامًا وبركة لا يعرفها العالم. ليس الغنى المادي بل بركة حضور الرب في حياة المؤمن التي لا تساويها كل كنوز العالم. الرب شجّع يشوع بعد موت موسى قائلًا: "كما كنت مع موسى أكون معك". عاش يسوع فقيرًا لكن كل غنى الله كان على حسابه فأشبع الآلاف. وقف بطرس ويوحنّا أما أعرج باب هيكل الجميل وقال له: "ليس لي فضة ولا ذهب لكن الذي لي فإياه أعطيك، باسم يسوع المسيح الناصري قم وامشِ". وصرخ آساف بعدما انزلق في التأمل في نجاح الأشرار المزيّف، ومعرفته الحقيقة عندما دخل مقادس الله: "من لي في السماء ومعك على الأرض لا أريد شيئًا".
لذلك عزيزي المؤمن: لا تغرق نفسك في سلبيات هذه الحياة بل انظر إلى الإيحابيات كما يراها الله واشكره عليها. ولا تخف من عواصف الحياة العاتية فإن الشمس خلف الغيوم وتمسّك بإيمانك بكل فرح وامتنان. ولا ترهب من اصطفاف جيوش الشرّ من حولك فإن مركبات الله تملأ الجبل والسهل ورنّم بلا خوف بل بثقة لا تتزعزع. والساكن في ستر العلي في ظلِّ القدير يبيت. وللرب إلهنا كل المجد.

المجموعة: تشرين الثاني (نوفمبر) 2022