في الليلة التي أُسلم فيها الرب يسوع المسيح، قال لتلاميذه وهو يُحيي عشاء الفصح معهم:

"الحق أقول لكم: إن واحدًا منكم يُسلّمني." فحزنوا جدًا وأخذوا يفحصون ذواتهم مخافة أن يتورّط أيٌّ منهم في تسليم المسيح. "وَابْتَدَأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقُولُ لَهُ: «هَلْ أَنَا هُوَ يَا رَبُّ؟»" أما يسوع فلم يُفصح عن هويّة مسلّمه بل أجاب: "الَّذِي يَغْمِسُ يَدَهُ مَعِي فِي الصَّحْفَةِ هُوَ يُسَلِّمُنِي!"
لم يلقِ الرب الضوء على الفاعل، لأنه أكثرَ من يدٍ غمست معه في الصّحفة. لماذا لم يُفشِ المسيح بِاسمِ الفاعل ويُريح تلاميذه؟ لأنه أرادهم أن يفحصوا ذواتهم باستمرار، ففَحْصُ الذات مفيدٌ وبنّاء.

من عليه فحص الذات؟
إن فحص الذّات أساسيٌّ لكلِّ من يهتمّ بصحّة وضعه الروحي والأخلاقي وبمصيره الأبدي. لقد حثّ النبيّ إرميا سامعيه على الرجوع إلى الله قائلاً: "لِنَفْحَصْ طُرُقَنَا وَنَمْتَحِنْهَا وَنَرْجعْ إِلَى الرَّبِّ." (مراثي 40:3) وعندما تساءل الشعب في القديم، لماذا يزرعون كثيرًا ويحصلون على دخلٍ قليل؟ يأكلون ولا يشبعون، يشربون ولا يرتوون، يكتسون ولا يدفأون؟ أجابهم الرب: "اجعلوا قلبَكم على طرقكم." (حجّي 5:1 و7) أي افحصوا طرقكم فتعرفون الجواب. وفي العهد الجديد طلب الرسول بولس الأمر عينه من مؤمني كورنثوس، فقال لهم: "جرّبوا أنفسكم، هل أنتم في الإيمان؟" أي، امتحنوا أنفسكم، هل أنتم مؤمنون بالحق؟ هل المسيح فيكم؟ المسيح يدعو كلَّ مُخلِصٍ إلى فحص ذاته بدلَ الإمعان في تفحُّصِ القذى - إن وُجدت - في أعين الآخرين ويغفل في الوقت ذاته عن الخشبة التي في عينِه. ويقول الرب يسوع بهذا الشأن: "يا مرائي، أَخرِجْ أوّلاً الخشبة من عينِك، وحينئذٍ تبصر جيِّدًا أن تُخرِج القذى من عين أخيك!" (متى 5:7)

لماذا عليه فحص الذات؟
إن فحص الذات أمرٌ إلهيّ جاء في العهد الجديد "ولكن ليمتحن الإنسان نفسَه." (1كورنثوس 28:11) فقلب الإنسان خدّاع ومنجَّس للغاية ولا يجب أن نوهم أنفسنا في خصوصه. والرب فاحص القلوب ومُختبر الكلى لا يُخدَع بمظاهرنا ويعرفنا حقّ المعرفة ويُحاسبنا على ما نحن عليه. "وَلكِنْ لِيَمْتَحِنْ كُلُّ وَاحِدٍ عَمَلَهُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ الْفَخْرُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ فَقَطْ." (غلاطية 4:6) ومن شأن عدم فحص الذات أن يستجلب التأديب من الرب الذي لا يطيق الشر المُستَّر عنه. يقول الرسول بولس للمشتركين في مائدة الرب أنهم سيُدانون إن قَدِموا إلى هذه المائدة بخطاياهم ومن دون إصلاح أمرهم مع الرب. ويقول إن من يتهاون مع جسد الرب ودمه يؤدَّب بالمرض والضعف والموت (1كورنثوس 30:11) والرب جعل في كلِّ إنسانٍ ضميرًا يؤنّبه إن أخطأ. وسيعجز كلُّ من يسترسل في الخطأ ويطفئ ضميره عن تمييز الصحّ من الخطأ ويستمرّ في ارتكاب الخطايا. كما إن كلّ من يدرّب نفسه باستمرار، من خلال فحص الذات، ليكون ضميره بلا عثرة تجاه الله والإنسان، يستطيع أن يرتاح بأن الله راضٍ عنه (رومية 1:9)
ويهتمّ صاحب الضمير الحيّ، الذي يتفحّص ذاته، بالمحافظة على شهادته للمسيح ناصعة أمام الجميع. لقد طلب الرب من خاصته أن يكونوا شهودًا له في العالم. فهو عندما جاء إلى العالم كان هو نور العالم، لكنّه صعد - بعدما أكمل عمل الفداء - إلى السماء وجلس عن يمين الآب ليشفع فيهم، فيصبحون هم نور العالم. والنور هو علامة النقاوة الكاملة، فهل يُعْقَل أن يُظلم النور فينا؟ لذا نقرأ: "يا أولادي، أكتب إليكُم هذا لكي لا تُخطئوا."

كيف عليه فحص الذات؟
يحتاج فحص الذات إلى وقت هادئ. وفضّل النبي داود فترة المساء قبيل إيوائه إلى النوم للقيام بذلك: "اِرْتَعِدُوا وَلاَ تُخْطِئُوا. تَكَلَّمُوا فِي قُلُوبِكُمْ عَلَى مَضَاجِعِكُمْ وَاسْكُتُوا." (مزمور 4:4) يستعيد الإنسان في تلك اللحظات الهادئة مجريات نهاره فيتأمَّل بها، ويُراجعها، ويُقيِّمها متفحِّصًا ذاته في شكلٍ دقيق وأمين. ويسبر المرء غور أفكاره، ومشاعره، وقرارات إرادته وأعماله، وكلماته.
ولا يحسب البعض حسابًا حتى للخطايا الصغرى. قليلون مثلاً يعرفون ما قاله الرب يسوع في هذا المجال: "كُلَّ كَلِمَةٍ بَطَّالَةٍ يَتَكَلَّمُ بِهَا النَّاسُ سَوْفَ يُعْطُونَ عَنْهَا حِسَابًا يَوْمَ الدِّينِ." (متى 36:12) لذا يجب أن يتمّ فحص الذّات بتجرُّدٍ وأمانة من دون إهمال أو تبرير للذّات كي لا نصل إلى التهاون، ومن دون قسوة كي لا تصل إلى الإحباط.
ويحتاج فحص الذات إلى الصلاة ليكون – بمعونة الرب – فحصًا دقيقًا وأمينًا. صلّى النبي أيّوب طالبًا من الله أن يعينه في تفحُّصِ ذاته: "كَمْ لِي مِنَ الآثَامِ وَالْخَطَايَا؟ أَعْلِمْنِي ذَنْبِي وَخَطِيَّتِي." (أيوب 23:13) لم يُرِدْ أيوب التهاون مع أيِّ خطيّةٍ في حياته. فالله وحده يعرف قلوبنا حقّ المعرفة ويضع يده على الأسرار الدفينة فيها. قال المرنّم قديمًا: "اخْتَبِرْنِي يَا اَللهُ وَاعْرِفْ قَلْبِي. امْتَحِنِّي وَاعْرِفْ أَفْكَارِي. وَانْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ، وَاهْدِنِي طَرِيقًا أَبَدِيًّا." كما إن على فحص الذات أن يتمّ على أساس مقياسٍ نزيهٍ ومُتَجَرِّد. وهذا المقياس هو كلمة الله، التي هي مرآة كاملة ترينا حقيقة أنفسنا كما هي تمامًا وليس كما يمكن أن تُصَوِّرَها لنا قلوبنا. فإذا نظرنا وعملنا بما كشفته لنا مرآة الكلمة عن أنفسنا، نعيد بذلك إعادتها إلى طريق الحق. "نَامُوسُ الرَّبِّ كَامِلٌ يَرُدُّ النَّفْسَ." (مزمور 7:19) ومن حسنات هذه المرآة أيضًا أنها ترينا صورة خالقنا وفادينا، وتدفعنا إلى طلب التطابق بين الصورتين حتى نكاد نراها صورةً واحدة، و"نتغيّر إلى صورة المسيح عينها."

ما نتيجة فحص الذات؟
من يمارس فحص الذات يساعد نفسه في الرجوع إلى الرب. "لِنَفْحَصْ طُرُقَنَا وَنَمْتَحِنْهَا وَنَرْجعْ إِلَى الرَّبِّ." (مراثي 40:3) فالابن الضال لم يعد إلى أبيه إلا بعدما رجع إلى نفسه "وَقَالَ: كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ الْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعًا! أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي... فَقَامَ وَجَاءَ إِلَى أَبِيهِ." (لوقا 17:15-20) ومن يُمارس فحص الذات يتمكّن من أن يعرف السبب الكامن خلف سقوطه في الخطيئة وارتكاباته وهفواته أيًّا كانت فينبذها وينتصر عليها ويُصحّح مساره؛ يقول الرب: "فَاذْكُرْ مِنْ أَيْنَ سَقَطْتَ (مارس فحص الذات) وَتُبْ (مارس التصحيح)، وَاعْمَلِ الأَعْمَالَ الأُولَى (مارس أعمال المحبّة التي سقطْت منها)." (رؤيا 5:2) وتصحيح المسار يفترض مراجعة دوافع القلب تجاه الآخرين الذين آذيناهم بطريقة أو بأخرى، فنطلب منهم المسامحة، ونُساعدهم على أن يعاملوننا بالمثل، فتحلو الحياة مع الآخرين ويقبل الرب ذبائح عبادتنا (متى 5:7).
"إن الضمير الحيّ وفحص الذات يعيداننا إلى المسار الصحيح الذي لا يقتصر على تصحيح الأمور الأرضية وحسب، بل يقودنا إلى الحقِّ وطريق القداسة الأبدي. صلّى داود: "واهدني طريقًا أبديًّا."

اقرأ مجلة "رسالة الكلمة" من العنوان:
https://www.risalatalkalima.com

المجموعة: أيلول/ سبتمبر 2023