أزهرةٌ سُرعانَ ما تَذوي؟ أبخارٌ يَظهرُ ثم يضمحِلُّ، أم موجةٌ تلثمُ ثغْرَ الرِّمالِ وبسرعةٍ تَتبعثرُ في عِبابِ اليَمِّ؟!

حين استفاقتْ من نومها العميق واستردَّتْ وعيَها بعدَ تسعةِ أيّام وتسعِ ليالٍ، وعندما رفعتْ رأسَها بعد أنْ تراجعتِ الحُمّى عنها وانخفضتِ الحرارة، سألتِ المريضةُ المعذَّبة والمتألّمة في آنٍ، بصوتها الضعيف قائلةً: "أين أنا؟ ومَن أتى بي إلى هنا؟"
"أنتِ هنا في العناية المركّزة." جاءها جوابُ الممرضة الهندية المعايِنة لحالتِها. "فلقد وجدَكِ الطّبيبُ المُرْسَل مَرميّةً على قارعة إحدى الطّرق البعيدة عن القرية -حيث تقطنُ قبيلتُكِ- هناك بين الشُّجيراتِ الكثيفة وأنتِ تئنِّين وتهذين بفعل الحرارة المرتفعة، فأسعفَكِ للحال، ونقلَكِ إلى هنا بسيارته، وراح يعتني بكِ ليلًا نهارًا."
"طبيبٌ مُرسَل؟ ماذا تعنين؟" استفسرتِ المرأةُ المريضة من جديد.
"أجل!" ردَّت الممرضة. "إنَّه طبيبُ المستشفى التابع للإرسالية هنا في أريزونا."
وهنا عادتِ المريضةُ لتستغرقَ في نومٍ عميق بفعلِ الأدوية المخدّرة التي حُقِنَتْ بها لتخفيف من ألم الجسد الذي ألمَّ بها بفعل الالتهاب الذي عمَّ في رجلَيْها وتركَها مشلولةً لا تستطيع الحِراك. وهنا عادتِ الممرّضة لتتذكَّرَ بالحرف ما قالهُ لها الطبيبُ المعالج عن اليوم الذي وجَد فيه المريضة. قال: "ترامَى إلى مسمعي صوتُ الصراخ والأنين الصاعد من وراء الشجيرات التي كانتْ مرئيةً عن بُعد في وسطِ الصحراء بينما كنت أقودُ سيارتي. وحين اقتربتُ من الصوت، أذا بي أسمع صوتَ استغاثةٍ مخيفًا بالفعْل. فظننتُ أنَّه حيوانٌ عالقٌ في شبَكة ما، ولا يستطيعُ الانفلات. فأوقفتُ سيارتي للحال ونزلْتُ منها حاملًا بُندقيتي، وشرعْتُ أشقُّ طريقي بين الشُّجيرات. وهناكَ بعيدًا فوجئتُ برؤيةِ امرأةٍ من الهنودِ الحُمْر مطروحةٍ تئنُّ وتَهذي ولا تقدرُ على الحراك. وحين فحصت جسَدها وجدتُ أنَّها تعرَّضت أيضًا لعذاب جسَدي وقَهْرٍ بالإضافة إلى الحُمَّى التي كانتْ تَسري في جسدها بسببِ الالتهاباتِ والغنغرينا التي تمكَّنت منه. ومع أنَّني لم أجدْ أيَّ أمَلٍ في شفائها، إلَّا أنَّني إعطيتها حُقنةً من المخدَّر للتخفيف من آلامها المبرِّحة. وبعد ذلك حملْتُها إلى سيارتي مسرعًا بها إلى المشفى هنا." ثم قال أيضًا: "وخلال الطريق استطعتُ أن أفهمَ منها بكلماتٍ قليلة وصوتٍ متحشْرِجٍ بأنَّها وصلت إلى ذلك المكان الموحِش لأنَّ طبيبَ القبيلة الهندية التي تنتمي إليها "نافاهو" Navajo لم يستطعْ بحسَب زعمِه وشعوذتِه، أن ينزِع منها الروح الشرير الذي كان يَظنُّ أنه سيطرَ عليها كما عن كلِّ مرض مستعصٍ عليه. لذا فلقد تخلَّى عنها واضعًا إياها في ذلك المكان لكي تموت وحدَها بعيدًا عن الأنظار. وبقيتْ هناك منبوذةً بعيدةً عن الناس لمدة أربعةِ أيام وأربعِ ليالٍ وهي مشلولةٌ دونَ طعام أو شَراب وسَط حرِّ النهار وبرْدِ الليل القارس، إذ كان المكانُ على ارتفاعِ أكثر من 6000 قدَم عن سطح البحر."
وبعد تلك اللمحة من الذكريات التي شارك بها الطبيب الممرضة، استفاقتِ المريضة من جديد. ومرة أخرى كررت سؤالها عن الطبيب المعالج وقالت: "لماذا فعَل كلَّ هذا من أجلي؟ فما أنا إلا امرأةٌ هنديّة معذّبة ومريضة، وهو رجلٌ أبيض. لقد نبذَتْني قبيلتي وطردتْني خارجًا. أما هو فحين وجدَني أتى بي إلى هنا لأتعافى؟!" أجابت الممرضة قائلة: "إنَّها محبَّةُ المسيح التي دفعَتْه لعملِ الرحمة هذا."
"وما هي محبةُ المسيح؟ ومَن هو المسيح؟" سألت المريضة. "لم أسمع عن هذا الشخص قبلًا؟ ماذا تعنين بالضبط؟"
قالت الممرّضة: "إنَّ فعْلَ الرحمة هذا نابعٌ من قلبه بفعل محبة المسيح التي اختبرها في حياته واختبرناها جميعُنا هنا في مشفى الإرسالية. فمحبة المسيح للبشر غيرُ محدودة ولامتناهية وهذه دفعَتْهُ لكي يموتَ عن خطايانا وشرورنا من أجل إنقاذنا من الموت الأبدي."
وبعد تلك الجلسة بدأت المريضةُ تستوعبُ شيئًا فشيئًا، وأدركتْ فيما بعد أنَّ عليها أن تتَّخذَ قرارًا في شأن المسيح هذا الذي يحبُّ البشر. ولكن هل ستتركُ أهلها وذويها على الرَّغم من معاملتهم القاسية لها؟ وكيف لها أن تغيِّرَ معتقدَها عن العبادات والممارسات والتعامل مع الأرواح؟! هل ستتركُهم وتتبعُ المسيح في حياتها كمخلّص لها من الخطية والشرور وتجعله حقًا ربًّا على حياتها؟ هذه كلُّها أسئلة كانت تجري في داخلها. وبينما هي على هذه الحال في حضرة المرشِد الروحي في المشفى، إذا بالطبيب يدخلُ الغرفة ليطمئنَّ على المرأة التي أنقذَها. وهنا لمع وجهُها بُشْرًا وقالت: إذا كان المسيحُ مثلَ هذا الطبيب الذي أنقذ حياتي فلسوف أضعُ ثقتي فيه كلَّ عمري. وهذا بالفعل ما عملَتْهُ.
ما أن انتهيت من قراءة اختبار الطبيب هذا وقصَّته مع المريضة المنبوذة (والتي ترجمتها بتصرُّف) حتى تذكَّرتُ تلك الترنيمة التي علِقَتْ في ذاكرتي، وفي كلِّ يوم أردّدها بيني وبين نفسي، فكلماتُها عميقة ومشجّعة وترتفع بي إلى مكانٍ أسمى وأرقى من عالم الواقع هذا الذي نعيش فيه. تقول الترنيمة:
مَن أنا؟ من أنا حتى إنَّ ربَّ هذا الكونِ الفَسيح يهتمُّ بي، ويدعوني باسمي، ويشعرُ بأذيَّتي، ويهمُّه أمري؟
مَن أنا، حتى إنَّ كوكبَ الصُّبح المنير، يختارُ أن يُضيءَ ليَ الدَّربَ أمامَ قلبيَ التَّائه أبَدًا؟
ليسَ لأنَّني أنا مَنْ أنا، بل لأجلِ ما عملتَه أنت! ليس لأجل ما فعلتُه أنا،
بل لأجلِ مَن هو أنتَ!
أنا مجرَّدُ زهرةٍ سَتذْوي سريعًا، اليومَ هنا، وستذبُل غَدًا. أنا موجةٌ تلطُمها مياهُ المحيط، أنا بخارٌ ونسمَةٌ في مهبِّ الريح سُرعانَ ما تضمحلُّ وتندثرُ. لكنَّك تسمعُني حين أدعوكَ، وتتلقَّفُني حين أقعُ.
مَن أنا؟ أنا مَنْ رأتْ عيناك خطاياي، ومع ذلك بَقَيْتَ تنظرُ إليَّ بنظرةِ المحبة، وراقبْتَني حين قمتُ من جديد وارتقيتُ.
مَنْ أنا حتى إنَّ الصوت الذي هدَّأ الأمواجَ في البحر ما زال يناديني تحتَ وقْعِ المطر، لِيُسَكِّنَ العاصفةَ في داخلي!
ليس لأنَّني أنا مَنْ أنا، بل لأجلِ ما عمِلْتَه أنتَ! وليس لأجلِ ما فعلتُه أنا، بل لأجلِ مَن هو أنتَ. لذا فأنا لكَ، أنا لكَ. فمِمَّن أخاف؟ أنا لك.
(مَن أنا؟ فريق نطرحُ تيجانَنا)
Who Am I – Casting Crowns
لماذا؟ وأين؟ وكيف؟ وما هو السبب؟ وهل أنا أستحقّ كل هذا الاهتمام؟ أسئلة تدور في فكر كل واحد منا حتى إن النبي داود في القديم فاهَ قائلًا: "مَن هو الإنسان حتى تذكرَه وابن آدم حتى تفتقده؟" (مزمور 4:8) نعم، مَن هو الإنسان حتى تحبَّهُ وترحَمَه وتجعلَه من خاصَّتك؟ قال يوحنا الرسول في هذا الصَّدد: "انظروا أيَّة محبة أعطانا الآب حتى نُدعى أولاد الله. من أجل هذا لا يعرفُنا العالم لأنَّه لا يعرفه." (1يوحنا 1:3)
ولا يزالُ الكثير من الناس يتساءلون مَن هو المسيح؟ ولماذا هو يحبُّني؟ وما هو دافعُ المؤمن الذي يمدُّ يدَ المساعدة للآخَر عند الاحتياج والعوَز كما فعلَ ذلك الطبيب؟ أمرٌ مستغرَبٌ خاصةً في عصرنا هذا! حين تسودُ المصالح على كلِّ القِيَم وتكونُ هي الأساس في التعامل مع الناس! إنَّ المحبةَ الحقيقيّة النابعة من مصدرِ المحبة لا بدَّ أن تنتجَ عنها الرحمةُ والرأفة، لذلك وحين سأل المسيح الناموسي في مثَل السامري الصالح (لوقا 25:10-37): فأيَّ هؤلاء الثلاثة تَرى صار قريبًا للذي وقع بين اللصوص؟ الكاهن، أم اللاوي اللذين جازا وعبرا ولم يهتمّا؟ أم تُراه السامري الغريب الجنس الذي تحنَّن، فتقدَّم وضمَّد جراحات الرجل - الذي تعرَّض لمهاجمة اللصوص - وصبَّ عليها زيتًا وخمرًا واعتنى به؟ أجاب الناموسي: "الذي صنع معه الرحمة." فقال يسوع المسيح: "اذهب أنتَ أيضًا واصنع هكذا."
هل تعلم ماذا قال النبي إرميا في القديم؟ قال: "تراءى ليَ الربُّ من بعيدٍ: [ومحبةً أبديةً أحببتُكِ، من أجل ذلكَ أدمْتُ لكِ الرحمةَ...]" (3:31) إذن عملُ الرحمة هو نتيجة لمحبة الله في داخل الإنسان أولًا ليس لأنَّني أنا مَن أنا! بل من أجل ما عمله هو، لأنَّ الله محبة وتجسّدت محبّتُه في شخص ابنه الوحيد الذي بذل نفسه من أجلي أنا، ومن أجل الهنديَّة الحمراء، ومن أجل كلِّ البشر حُمْرًا كانوا أم صُفرًا، سودًا أم بيضًا، لا فرق.
فيا ليتنا نفحص نفوسنا على ضوء محبّة الله ومحبة المسيح الفائقة المعرفة وعملِ الروح القدس في قلوبنا. ويا حبَّذا لو نسأل: هل حقًّا نحن المؤمنين، نعكِس محبَّة الله للناس من حولنا؟ وإذا كنّا حقًّا نفعل ذلك فلا بدَّ أن تثمر المحبّة عملًا هو الرحمة.

المجموعة: أيلول/ سبتمبر 2023