يزعجني كثيرًا أن أرى البعض يملأهم روح العدائية والتقليل من الآخر، والتفنّن في الانتقام ولا سيما لو كانت هناك إساءة.

وفي اعتقاد هؤلاء أن هذا التوجّه سيعطيهم الراحة وإثبات شخصيتهم وسحق الخصم، والبقاء للأقوى. ما هذا؟ ولماذا؟

أولاً: ما هي الأسباب التي تقود الكثيرين لروح العدائية والانتقام؟

١. لا ننسى أن كلمة الله تعلّمنا أن الإنسان بطبيعته الساقطة يميل للبغضة، ويغذّيها رئيس هذا العالم، إبليس القتَّال، كما قال عنه المسيح «أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالاً لِلنَّاسِ مِنَ الْبَدْءِ.»

٢. كثرة الضغوط التي نرزح تحتها، مما تجعل الأعصاب متهالكة، فلا يمكنها الاحتمال أو الهدوء. وحيث أنه لا بدّ من متنفس لهذه الضغوط، فالمجال الوحيد هو الاحتكاك بالآخر. لكن الأروع هو سكبها أمام الله كما قالت حنة «بَلْ أَسْكُبُ نَفْسِي أَمَامَ الرَّبِّ» (١صموئيل١: ١٥).

٣. العالم من حولنا بناسه ومبادئه يشجّع هذا التوجّه الانتقامي، ويستضعف الوديع والمتسامح الراقي! لقد افتخر الشرير لامك ابن قايين بالقول: «فَانِّي قَتَلْتُ رَجُلاً لِجُرْحِي وَفَتىً لِشَدْخِي. إنَّهُ يُنْتَقَمُ لِقَايِينَ سَبْعَةَ أضعاف وَأمَّا لِلامَكَ فَسَبْعَةً وَسَبْعِينَ.» (تكوين 23:4-٢٤)

ثانيًا: مبدأ العين بالعين والسن بالسن

أساء البعض فهم هذه الآيات الواردة في كلمة الله، ويعتبرونها تصريحًا للانتقام والغضب. وسنحاول بنعمة الله فهم هذه الآيات فهمًا صحيحًا.
إن الله أعطى هذا المبدأ للقضاة للحكم وليس للأفراد لينتقم كلٌّ لنفسه. فنقرأ كلام الرب للقضاة عند فحصهم أي قضية قائلاً لهم: «لا تُشْفِقْ عَيْنُكَ. نَفْسٌ بِنَفْسٍ. عَيْنٌ بِعَيْنٍ. سِنٌّ بِسِنٍّ. يَدٌ بِيَدٍ. رِجْلٌ بِرِجْلٍ.» (تثنية 21:19) فلا يقلّل أو يزيد عليه.
إن الله في هذا القانون قصد حماية الضعفاء من الأقوياء، وتحذير للأقوياء المفترين «وَلاَ يَعُودُونَ يُقْدِمُونَ عَلَى مِثْلِ هَذَا الأَمْرِ الْقَبِيحِ فِي وَسَطِكُمْ.» (تثنية 20:19)

ثالثًا: كيف نواجه الإساءات؟

قدَّم الرب يسوع في عظته على الجبل بعض النصائح لكيفية مواجهة الإساءات وإطفاء نار الغضب والانتقام.

١. «وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا.» (متى 39:5) المقصود هنا بلطمة جاءت غير متوقّعة، لأن من يضربني بيمينه سيضربني على خدّي الأيسر. لا يتكلّم عن وضع حرب أو خطر يهدّد الحياة، بل عن معاملاتنا اليومية. لا تقاوم الشرّ بالشرّ حتى لو واجهت أشدّ إساءة لأن للرب النقمة وهو يجازي. وأعتقد أن الرب لا يقصد هنا الحرفية، بل الروحية، كباقي الموعظة مثل ما قال إن أعثرتك عينك فاقلعها.

٢. «وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا.» (متى 40:5) في الشريعة اليهودية حذّر الرب من أن يأخذ أحدٌ رداء الآخر، لأنهم يستخدمونه للّبس فوق الملابس بالنهار وكغطاء في الليل. وكأن الرب أراد أن يقول تنازل عن حقك الشرعي في مقابل أن تبتعد عن الخصام والمقاتلة. ومن خلال نعمة الله نختبر ما قاله الكتاب «وقَبِلْتُمْ سَلْبَ أَمْوَالِكُمْ بِفَرَحٍ، عَالِمِينَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَنَّ لَكُمْ مَالًا أَفْضَلَ فِي السَّمَاوَاتِ وَبَاقِيًا.» (عبرانيين 34:10)

٣. «وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِدًا فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ.» (متى 41:5) كان القانون الروماني ينصّ على أنه من حقّ المستعمر أو الجندي الروماني تسخير واحدٍ من الشعب ليحمل له حملاً لمسافة ميل واحد، أي ١٦٠٠ متر. لكن تابع المسيح مستعدّ للسير والاحتمال مسافة أطول وتضحية أكبر عن أن يغضب ويثور أو يتوعّد بالانتقام.

رابعًا: كيف أتجنّب البغضة والانتقام؟

١. تذكّر كيف وكم غفر لك المسيح؟ «وَكُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ اللهُ أَيْضًا فِي الْمَسِيحِ.»

٢. لا تدع الغضب يتراكم في قلبك بل تعلّم كيف تتخلّص منه. «لاَ تَغْرُبِ الشَّمْسُ عَلَى غَيْظِكُم وَلاَ تُعْطُوا إِبْلِيسَ مَكَانًا... لِيُرْفَعْ مِنْ بَيْنِكُمْ كُلُّ مَرَارَةٍ وَسَخَطٍ وَغَضَبٍ.» (أفسس 26:4 و٣١)

٣. تعلّم أن تلتمس الأعذار للآخرين. قد يكون هناك سبب خارج عن إرادة المُسيء جعلته يتصرّف هكذا – مع أن هذا ليس مبرِّرًا للخطأ أبدًا - وهذا ما أعلنه الرسول بولس أمام ترك الآخرين له فقال: «الْجَمِيعُ تَرَكُونِي. لاَ يُحْسَبْ عَلَيْهِمْ.» (٢تيموثاوس 16:4)

٤. لا تنسَ أن الرب الديّان العادل سيجازي كلّ واحد كما يكون عمله، فليس المعنى أن أسامح وأتنازل بأن الرب سيمرّر شرّ الآخرين دون حساب! كلّا، «إذْ هُوَ عَادِلٌ عِنْدَ اللهِ أَنَّ الَّذِينَ يُضَايِقُونَكُمْ يُجَازِيهِمْ ضِيقًا.» (٢تسالونيكي 6:1)

٥. ملء الروح القدس: كيف أستطاع استفانوس أن يطلب الغفران لمن يرجموه؟ «وَأَمَّا هُوَ فَشَخَصَ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ مُمْتَلِئٌ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ» مُعلنًا صفحه أيضًا «ثُمَّ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: يَا رَبُّ لاَ تُقِمْ لَهُمْ هَذِهِ الْخَطِيَّةَ.» (أعمال 55:7-٦٠)

٦. المثال الأعظم: وهل يوجد أعظم من الرب يسوع في صفحِه؟ ليتنا نتمثّل به. قال عنه الرسول بطرس: «تَارِكًا لَنَا مِثَالاً لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُواتِهِ.» وأيضًا «الَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضًا وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْل.» (١بطرس 21:2-٢٣) ليتنا نجلس طويلاً مع ربنا يسوع المسيح فنمتلئ من وداعته وفكره ونتشبّه بسلوكه. فيتحقّق عمليًا فينا القول: «مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِهِ.» (رومية 29:8)

المجموعة: نيسان (إبريل) 2023