لا يمكن للعقل البشري، مهما حاول، أن يستوعب شخصية المسيح في طبيعته الإنسانية والإلهية. و

لكننا في هذه الدراسة المختصرة سنعمل على إلقاء بصيص من الضوء على "أنا" المسيح كما ارتأى مخلّص العالمين أن يعبّر عنها في أحاديثه المختلفة في أثناء وجوده على الأرض.
ولكي ندرك بعض خصائص هذه "الأنا" في معنيَيْها الذاتي والمُطلق، لا بدّ أن نحدّد ما هو ذاتي وما هو مطلق. فالذاتي في هذه الدراسة هو ما يرتبط بالشخصية. والمطلق ما يرتبط في قدرة الفعل اللامحدود، أي الطبيعة الإلهية. إن "أنا" الذاتية قد تجسّدت أمام معاصري المسيح بما يتميّز به من خصائص بشرية كانت مثالاً يُحتذى به قولاً وفعلاً، في حدود إنسانية المسيح من تصرّفٍ، ومأكلٍ ومشرب، وعلاقات عامة بمجتمعه، وعباداته، وممارساته اليومية، فقد عاش المسيح حياة طاهرة مجرّدة من كل خطية، مع أنه جُرِّب مثلنا، وتعرّض لكلِّ ما يمكن أن يتعرّض له أي إنسان آخر.
ولمن "الأنا" المطلقة، أي الأنا الإلهية التي تعبِّر عن أزلية المسيح وقدرته الفاعلة، فهي تتمثّل في مواقفه من الوجود بأسره. [فالأنا] الإلهية هذه لا ترتبط بمظهر واحد، بل تتعدّد مظاهرها، لأن [أنا] المسيح الإلهية غير محدودة بزمان ومكان. وهنا أريد أن أتناول مظهرًا واحدًا من مظاهر هذه الأنا.
قال المسيح عن نفسه: "أنا هو نور العالم." (يوحنا 12:8) لم يقل المسيح "أنا هو نور من أنوار العالم" بل حدّد ذاته بأنه هو "نور العالم"، أي النور الوحيد لهذا العالم الغارق في ظلمات الخطيئة. وفي قوله "نور العالم" عانق بذاته كل العالم من غير استثناء. أي أنه لم يكن نورًا لأمّة معيّنة، بل شمل بنوره كل العالم. فهو وحده، بفضل محبته وصليب خلاصه، جاء ليكون رحمة للعالمين.
إذن المسيح هو النور المهيمن، وكل نور سواه هو نور اصطناعي. وقد ورد ذكر النور في العهد القديم قبل أن يشير إليه المسيح كرمز له: "الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا. الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور." (إشعياء 2:9)
وفي مكان آخر يقول: "الرب يكون لكِ نورًا." (إشعياء 20:60) "الرب نوري وخلاصي..." (مزمور 1:27)
ولا ريب أن كل من يؤمن بالمسيح إيمانًا كاملًا يحيا في النور، لأننا إن كنا فيه نسلك "في النور." (1يوحنا 7:1) لأنه "نورٌ قد زُرع للصدّيق." وجاء في سفر الأمثال: "أما سبيل الصديقين فكنورٍ مشرق." (أمثال 18:4) وقد هتف المرنّم قديمًا: "بنورك نرى نورًا." (مزمور 9:36) بل إن الأمم جميعها إذا تبعت المسيح تسير في نوره "فتسير الأمم في نورك." (إشعياء 3:60) وقد أشار المسيح نفسه إلى النور وقال إنه حياة. وهذا حقّ لأن المسيح الذي هو نور العالم هو الحياة أيضًا. قال الرب يسوع: "من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة." (يوحنا 12:8) والحقيقة أن نور العهد القديم هو نور العهد الجديد، لأنّ المسيح الذي كان به كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان، هو الكلمة الأزلي بل النور الأزليّ.
يقول المسيح عن نفسه: "جئت نورًا إلى العالم." (يوحنا 46:12) "النور قد جاء إلى العالم." (يوحنا 19:3) فقال لهم يسوع: "النور معكم." (يوحنا 35:12) وقال عن يوحنا: "جاء للشهادة ليشهد للنور." (يوحنا 7:1)
ومن ناحية أخرى، فإن كل من يؤمن بالمسيح يصبح ابن نور. يقول الرسول بولس لأهل تسالونيكي: "جميعكم أبناء نور." (1تسالونيكي 5:5) بل إن المؤمنين بالمسيح الذين انعكست عليهم أنوار محبة المسيح وقداسته وفرحه – يصبحون نور العالم أيضًا، لأنهم يستمدّون نورهم منه. فالمسيح هو المصدر كالشمس، والمؤمنون كالأقمار يعكسون نوره على العالم. وكمؤمنين به يطالبنا السيد أن نضيء على الناس. يقول لنا: "فليضئ نوركم هكذا قدّام الناس..." (متى 16:5) ذلك أن "نورنا" هو شهادة حيّة على فعل نور المسيح فينا، هو انعكاس طبيعي للأشعّة المقدسة التي احتضنتنا بفضل محبته.
بيد أن هذا "النور"، أي المسيح هو دينونة للعالمين أيضًا. يقول المسيح: "وهذه هي الدينونة: إن النور قد جاء إلى العالم، وأحبّ الناس الظلمة أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة. لأن كل من يعمل السيّئات يُبغض النور، ولا يأتي إلى النور لئلاّ توبَّخ أعماله. وأما من يفعل الحق فيُقبِل إلى النور، لكي تظهر أعماله أنها بالله معمولة." (يوحنا 19:3-21)
أجل، إن النور هو دينونة للعالم، لأنّ النور يكشف قذارة الخطيئة ومساوئ أعمال الإنسان المتمرّد على إرادة الله ومشيئته. فويل للسالكين في الظلمة لأنهم في مهاوي شرّهم يسقطون، وفي حُفر إثمهم يكبون ولا نجاة.

المجموعة: تشرين الأول (أكتوبر) 2023