ما نختاره اليوم يحدّد مسيرة حياتنا الأرضية ويؤثّر على مسيرة حياتنا في الأبدية...
إنه الاختيار بين الحياة والموت. لأننا كثيرًا ما نسيء الاختيار، معتقدين أن ما اخترناه هو الأفضل. "تُوجَدُ طَرِيقٌ تَظْهَرُ لِلإِنْسَانِ مُسْتَقِيمَةً وَعَاقِبَتُهَا طُرُقُ الْمَوْتِ". (الأمثال 12:14)
وعندما نأتي إلى الجلجثة، وننظر إلى صليب ربّنا يسوع المسيح، يبرز أمامنا أصعب سؤال وأخطره: هل أقبل الصّليب وأومن بالمصلوب وأنال الحياة الأبدية؟ أم أرفض الصّليب، وأنكر المصلوب، ومن ثمَّ أقاسي العذاب الأبدي؟
إذا قرأنا ما جاء في لوقا 32:23-43، نجد أن الجلجثة شهدت موت لِصَّين مذنبين مع ربّنا يسوع المسيح. تُظهِر هذه الحقيقة مدى قساوة قلوب من صلبوا رب المجد يسوع: فلماذا قتلوه مصلوبًا، بدلًا من قتله رجمًا أو بحدّ السيف؟ ولماذا صلبوه مع لِصَّين؟
تخبرنا سجلات التاريخ أن الفُرس هم أول من استخدموا الصّليب كوسيلة للإعدام. ثم جاء الإسكندر الكبير وجعل الصّليب وسيلة شائعة للإعدام. ثم جاء بعده الرومان، فتبنّوا الصلب كوسيلة لإعدام أسوأ أنواع النّاس المجرمين من عبيدٍ ولصوصٍ وقراصنةٍ الذين ليسوا رومانًا.
إذًا، الموت على الصّليب هو أبشع أنواع الموت ومصدر عار فظيع للمصلوب... هو قمة الإذلال حيث يُعلَّق المجرم ويأتي النّاس للسّخرية وللشّماتة به.
هذا الموت المُذلّ والفظيع هو ما اختاره رجال الدين اليهود من كتبة وفريسيين وصدوقيين لربّنا وفادينا يسوع المسيح! وهو ما نفذه جنود روما بأمرٍ من الوالي بيلاطس البنطي.
لم يكتفِ أعداء ربّنا يسوع المسيح بهذا الأسلوب الفظيع في قتله، بل أرادوا الإمعان في إذلاله وإهانته بأن صلبوه بين لِصَّين مجرمَيْن. كان هناك ثلاثة صلبان عُلّق عليها الرب يسوع مع مذنبَيْن. ولم يعلم من رتّب صلبهم أن ما عمله لم يكن صدفة مجرّدة، بل أن ما حدث تمّ بالضبط بحسب مشيئة الله التي أعدّها منذ القدم. "لأَنَّهُ بِالْحَقِيقَةِ اجْتَمَعَ عَلَى فَتَاكَ الْقُدُّوسِ يَسُوعَ الَّذِي مَسَحْتَهُ هِيرُودُسُ وَبِيلاَطُسُ الْبُنْطِيُّ مَعَ أُمَمٍ وَشُعُوبِ إِسْرَائِيلَ لِيَفْعَلُوا كُلَّ مَا سَبَقَتْ فَعَيَّنَتْ يَدُكَ وَمَشُورَتُكَ أَنْ يَكُونَ". (أعمال 27:4-28) وفي عظته المشهورة في يوم الخمسين أو العنصرة، خاطب بطرس الرسول رجال إسرائيل قائلًا لهم عن صلب ربّنا يسوع المسيح: "هَذَا أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّمًا بِمَشُورَةِ اللهِ الْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ السَّابِقِ وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ". (أعمال 23:2) فما تمّ كان بالضبط حسب مشورة الله وعلمه السَّابق، وهو بالضبط ما سبق لأنبياء الله القدماء أن كتبوه بالوحي عن موت ربّنا يسوع المسيح: "وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ". (إشعياء 12:53) وفعلًا صُلِبَ مع أثمة. "وَجُعِِلََ مَعَ الأَشْرَارِ قَبْرُهُ". (9:53) "يَحْفَظُ جَمِيعَ عِظَامِهِ. وَاحِدٌ مِنْهَا لاَ يَنْكَسِرُ". (مزمور 20:34)
لا بدّ أن يتمّ كلّ كلمة من كلام الله كما أوحِيَ للأنبياء. وموت الرّب يسوع على الصّليب بين لِصَّين مذنبَيْن كان بالضبط بحسب ترتيب الله وعلمه السابق.
صلبوا ربّنا يسوع المسيح بين لِصَّين، ولزيادة عذابه وتحقيره بشكلٍ مفرط، صلبوه في الوسط، لأن الذي يُصلب في الوسط كان يُعلَّق بواسطة دقّ المسامير في يديه ورجليه لأنه كان يُعتبر أسوأ الأشرار المصلوبين، فصالبو ربّنا اعتبروه أسوأ من الرجلين اللّذَيْن صُلِبا معه، مع أن بيلاطس نفسه شهد قائلًا أنه لم يجد فيه أيّة علَّة. لقد صلبوا ربّنا يسوع كمجرمٍ مثل بقية الأشرار واللّصوص: فهو لليهود، كان مجدّفًا لأنه ادّعى بأنه ابن الله، أي مساوٍ للآب في الجوهر. وللرومان كان ملكًا منافسًا لقيصر. فاتّفق الفريقان على صلبه بأبشع وسيلة كانت معروفة في أيامهم؛ أي بالصلب. والآن دعونا نتصوّر بمخيلتنا صلبان الجلجثة:
كانت هنالك ثلاثة صلبان متشابهة في الشكل والمنظر، ولكنها تحمل اختلافًا عظيمًا في الجوهر، وكلّ صليب له معنى ورسالة تختلف تمامًا عن غيره:
كان هنالك صليب المُعطي، وصليب القابل والمستسلم، وصليب الرافض والمعاند.
كان هنالك صليب من مات من أجل الخطيّة، وصليب من مات عن الخطيّة، وصليب من مات في الخطيّة. كان هنالك ثلاثة صلبان: صليب الخلاص والفداء، وصليب الإيمان والقبول، وصليب الخطيّة والرفض. وكان هنالك ثلاثة أشخاص: المخلِّص الذي مات من أجل الخلاص، والقديس الذي نال الخلاص، والخاطئ الذي رفض الخلاص.
كان هنالك في الجلجثة ثلاث حقائق متعلّقة بخلاص الله للجنس البشري: 1- المخلِّص الذي يحبّ الجميع، والذي مات عن الجميع. 2- والقديس الذي آمن بالمخلِّص وحصل على الحياة الأبديَّة. 3- والهالك الذي رفض المخلِّص وحصل على العذاب الأبدي.
الصّليب الأول: صليب الفداء والمحبّة، حيث وضعوه في الوسط، وهو أعظم صليب! وهذا يذكّرنا دائمًا أن الصّليب هو في مركز إيماننا المسيحي، وأن موقفنا من الصّليب يحدّد مصيرنا الأبدي. لقد ظهرت محبة الله في أوضح وأقدس وأعظم صورها على صليب الفداء. عندما ننظر إليه نتعلّم الدرس الحقيقي الأوّل عن حكمة الله وعظمة محبّته لنا نحن الخطاة. لم يمت ربّنا يسوع المسيح شهيدًا من أجل قضية أو عقيدة. ولم يمت ربّنا يسوع لأنّه كان مجرمًا. بل مات لأنه اختار طوعًا أن يدفع بدمه الطاهر والكريم ثمن خطايانا جميعًا. "لأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ". (2كورنثوس 21:5) "وَلَكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا". (رومية 8:5) الله يحبّنا ويريد لنا خلاصًا أكيدًا وأبديًّا وتامًّا... الله دفع ثمن خطايانا بدم الرّب يسوع المسيح. فما هو ردّنا؟ هل نقبل المحبّة فنحيا؟ أم نرفض المحبّة فنموت؟!
الصّليب الثاني: صليب الرفض والخطيّة والإصرار عليها... صليب التمرّد والتجديف. "كَانَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُذْنِبَيْنِ الْمُعَلَّقَيْنِ يُجَدِّفُ عَلَيْهِ قَائِلًا: [إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا]" (لوقا 39:23). رفض هذا المذنب أن يقبل حقيقة شخص الرّبّ يسوع باعتباره ابن الله، أي الله المتجسّد من أجل خلاص العالم. قال الرّب يسوع: "... إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَنِّي أَنَا هُوَ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ". (يوحنا 24:8) لقد مات هذا اللّص في خطاياه لأنه لم يؤمن باسم ابن الله مخلّص العالم الوحيد. وهذا الإنسان سخر بربّ المجد يسوع مع أنه كان في أرذل ساعات حياته: فقد كان معلّقًا على صليب العار وعلى وشك الموت، أي كان يعيش آخر لحظات حياته، ومع ذلك أصرّ على الاستمرار في الخطيّة والشرّ والعناد. لقد كان إنسانًا عنيدًا، ذا قلب جاحد ومليء بالمرارة، حتى آخر ثانية في حياته.
كان هذا اللّص مثل المخلِّصِ معلَّقًا على الصّليب. كانت أمامه فرصة رائعة أن يموت مع المخلِّص، وعيناه رأت المخلِّص، ومع ذلك رفضه ورفض نعمة غفران الخطايا.
الصّليب الثالث: صليب القبول، أي الذي نال الخلاص والحياة الأبديَّة، أو صليب التوبة.
نلاحظ في لوقا 40:23-42 أمورًا كثيرة عن اللّص الثّاني:
1. وبّخ زميله على ما نطق به من عبارات تجديف بحقّ الرّب يسوع: "أَوَلاَ أَنْتَ تَخَافُ اللهَ إِذْ أَنْتَ تَحْتَ هَذَا الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟"
2. اعترف بالخطيّة حين قال: "أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْلٍ لأَنَّنَا نَنَالُ اسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا".
3. اعترف ببرّ الله وقداسة يسوع، حين قال عنه: "وَأَمَّا هَذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ".
4. اعترف بأن يسوع هو الرّب حين قال: "اذْكُرْنِي يَا رَبُّ".
5. أظهر رجاءً حيًّا بالحياة الأبدية: "اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ".
تغيّرت في آخر لحظات حياته عدّة أمور: لم يعد يطيق الخطيّة، بل وبَّخ زميله. واعترف بخطاياه الشخصيّة، واعترف بيسوع ربًّا على حياته، وآمن بأنه قادر أن يعطيه الحياة الأبدية.
لا بدّ وأنّ كلمات الرّب يسوع التي قالها وهو معلّق على الصّليب قد فعلت فعلها في قلب اللّص الثاني الذي سمعه يقول: "يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ". (لوقا 34:23) وهي عبارة تدلّ على المحبّة والغفران، وهي محبّة ليست نحو أحبّاء، بل نحو من صلبوه وعذّبوه. وهكذا أدرك أن يسوع هو ابن الله الذي يريد الغفران والخلاص لأشرّ الخطاة.
لم يخيِّب الرّب يسوع رجاء هذا الإنسان التائب، بل أكّد له خلاصه وحصوله على الملكوت فورًا حينما خاطبه قائلًا: "إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ". (لوقا 43:23)
يعلمنا صليب التوبة أن طريق الخلاص سهلٌ للغاية: فقط بالتوبة وطلب الغفران والطهارة بدم الرّب يسوع المسيح. كذلك نتعلّم أن طريق الخلاص لا يحتاج لطقوس دينية وأعمال برّ جسدية، بل ثقة بشخص الرّب يسوع وما عمله من أجلنا على الصّليب.
يذكّرنا اللّص الذي تاب ونال الحياة الأبدية، أنه لا يهمّ من أية عائلة أو طائفة أو مركز اجتماعي نحن، بل ما يهمّ هو أن دخولنا السماء يعتمد على علاقتنا بالرّب يسوع.
إن وثقت بالمسيح ستدخل السماء. إن اعترفت بخطاياك، فسيغفر لك الله. إن رفضت المسيح ستنال العقاب الأبدي. إن عشت بالخطيّة وبقيت مصرًّا عليها، فسيمكث عليك غضب الله. ما هو موقفك؟ ماذا ستختار اليوم؟