قال يوسيفوس المؤرّخ في القرن الأوّل الميلاديّ، "لا يمكن للشاهد أنْ يكون ذا ماضٍ، ولا أن يكون عبدًا،

ولا أنْ يكون امرأةً". واختار يسوع أن يكون الشاهد الأوّل بقيامته امرأةً ذات ماضٍ أيضًا. فمَنْ هي مريم المجدليّة، وماذا نتعلّم عنها في ذكرى القيامة؟

1- مريم مع يسوع وتخدمه بعد الرجوع
تقع قريتها "مجدل" على الساحل الغربيّ لبحيرة طبريّا، وتبعد عن بلدة طبريّا حوالي 4 كيلومترات. اشتهرت مجدل بالصباغة والنسيج وصيد الأسماك وبيع الحمام. يذكر الطبيب لوقا مريم المجدليّة في إنجيله أولًا باتّباعها ليسوع بعد تحريرها، "وَعَلَى أَثَرِ ذلِكَ كَانَ (يسوع) يَسِيرُ فِي مَدِينَةٍ وَقَرْيَةٍ يَكْرِزُ وَيُبَشِّرُ بِمَلَكُوتِ اللهِ، وَمَعَهُ الاثْنَا عَشَرَ. وَبَعْضُ النِّسَاءِ كُنَّ قَدْ شُفِينَ مِنْ أَرْوَاحٍ شِرِّيرَةٍ وَأَمْرَاضٍ: مَرْيَمُ الَّتِي تُدْعَى الْمَجْدَلِيَّةَ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا سَبْعَةُ شَيَاطِينَ، ... وَأُخَرُ كَثِيرَاتٌ كُنَّ يَخْدِمْنَهُ مِنْ أَمْوَالِهِنَّ". (1:8-3) ما أروع الحرية التي تمتّعت بها مريم فجعلتها تكرّس نفسها للمسيح، وتسير معه، وتنفق من مالها في خدمته. تذكّرنا بالمجنون الذي أخرج يسوع الشياطين منه، فجلس عند قدميه وطلب منه أن يكون معه بعد أن اختبر روعة الانتقال من عبودية الظالم إلى بنوّة الآب المحبّ.

2- مريم تتبع فاديها الموجوع
تركت مريم بيتها وبلدتها وتبعت يسوع من الجليل إلى أورشليم للصلب. يقول البشير مرقس، "وَكَانَتْ أَيْضًا نِسَاءٌ يَنْظُرْنَ مِنْ بَعِيدٍ، بَيْنَهُنَّ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ... اللَّوَاتِي أَيْضًا تَبِعْنَهُ وَخَدَمْنَهُ حِينَ كَانَ فِي الْجَلِيلِ. وَأُخَرُ كَثِيرَاتٌ اللَّوَاتِي صَعِدْنَ مَعَهُ إِلَى أُورُشَلِيمَ". (40:15-41). أين كان التلاميذ؟ سبق بطرس "فَقَالَ بِأَكْثَرِ تَشْدِيدٍ: «وَلَوِ اضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ!» وَهكَذَا قَالَ أَيْضًا الْجَمِيعُ". (مرقس 31:14). لكننا لا نرى منهم عند الصليب سوى يوحنّا، مع النساء الوفيّات، ومن بينهنّ مريم المجدليّة بحسب إنجيل يوحنا. تخيّل معي مشاهدة تعذيب في إعدامٍ دام ستّ ساعات! ليس فيلم رعبٍ ولا تمثيلًا وإنما مشاهدةً حيّةً ليسوع البارّ الذي لم يعرف خطيّة بينما يدقُّ الجنود مسامير الحديد في يديه الطاهرتين اللتين شفى بهما المرضى وأشبع الجياع ولمس العميان، وفي قدميه اللتين جالتا لصُنع الخير. يؤكّد لنا متى ومرقس أنّ مريم المجدلية بقيت حتى النهاية، ورافقت نيقوديموس ويوسف الرامي حين أخذا جسد يسوع المضرّج بالدماء، ولفّاه بالكتّان ووضعاه في القبر، "وَكَانَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ أُمُّ يُوسِي تَنْظُرَانِ أَيْنَ وُضِعَ". (مرقس 47:15) هل استطاعت أن تنام تلك الليلة؟ لا أظنّ. يصعب النوم على الإنسان بعد حادثِ سيّارةٍ مُريع لأنّ صوت الارتطام يبقى صداه في ذهنه، كما أنّ مَشاهِد الحروب وآلام الآخرين، حتى لو كانت في أفلامٍ، تجعلنا نتأثّر كثيرًا؛ فكم بالحريّ بعدما سمعت المجدليّة صوت المطرقة على المسامير، وأنين المسيح على الصليب، وتعيير الجنود واليهود، وبعدما رأت طعنه بالحربة في جنبه ودمه الطاهر يتدفّق منه. أتذكر عندما كان زوجي يتعرّض لنوبات تشنّج مؤلمة جدًّا ينام بعدها بسبب الدواء، كيف كنت أقضي الليل في دموعٍ صامتةٍ. يصعب علينا النوم بعد معاينة الآلام. كم عانت مريم وباقي النساء بعد يوم الصلب!

3- مريم تبكّر إليه أول الأسبوع
ألا تدهشك مريم؟ ليست المشكلة العويصة أمامها كيف تنهض بعد ليلةٍ سوداء ربّما لم تذق فيها نومًا، ولا الظلام ولا الجنود الحرّاس ولا أختام الرّومان على القبر وإنما، "من يدحرج الحجر؟". فقد اشترت الحنوط وسوف تكرم سيّدها وتفعل بحسب التقاليد، لن تأبه العتمة لأنها تعرف أن الذي حرّرها من الشياطين هو معها ويحميها. وعندما وصلت وجدت الحجر مدحرجًا، ورأت الملاك، لم تبالِ لأنها تريد سيّدها. وظلّت تبكي في البستان، إلى أن جاء يسوع نفسه، وسألها سؤالان:

1) لماذا تبكين؟
ما أرقّ قلب المسيح، يجول بين بناته وأولاده الحزانى اليوم ويسأل كلّ واحد فينا، لماذا تبكي؟ وكما تقول الترنيمة:
التفتْ نحو الصليبْواسألِ القبرَ الرهيبْ
تسمعِ الكونَ يجيبْ لا تبكِ، لا تبكِ
رأى دموعها مع أنه كان خلفها، وهو اليوم يرى دموعنا حتى عندما نبكي في الظلمة وفي المخدع، يحقّ له وحده أن يقول لنا لا تبكِ! لأنه يستطيع أن يعزّينا.

2) من تطلبين؟
لم يسألها ماذا تطلبين؟ عرف أنها لا تبحث عن شيء وإنما عن شخص لأنّ الحاجة هي إلى واحد، كما قال لمرثا سابقًا. كانت الدموع تملأ مقلتيها، ولم تنظر للمتكلّم معها، وظنّته البستاني. كنت أتدرّب في طفولتي على أداء أغنيةٍ جماعيّة في مدرسةٍ صيفية. ولم يجد المدرّب مفتاح غرفة المسرح، ثم رأى رجلًا قادمًا نحوه فقال بصوتٍ عالٍ، ربما هذا هو آذن المدرسة (عامل النظافة)، وهو يعرف أين المفتاح. لكن الرّجل كان مدير المدرسة، وجنّ جنونه، وصار يوبّخ المدرّب بأقسى العبارات أمامنا لأنه حسبه أقلّ مرتبةً، ولم ينتبه إلى الطّقم الذي كان يرتديه! ما أروع يسوع وهو ملك الملوك وربّ الأرباب لا يهمّه أن تظنّه مريم البستانيّ، ألم يغسل أرجل تلاميذه قبل أيامٍ قليلة وعلّمهم أنّ أعظمهم هو خادمهم؟ ثم ينادي يسوع مريم باسمها فيرفع رأسها الذي كان منكّسًا (لوقا 5:24)، فهو رافع رؤوسنا. من ملاحظات زوجي عن هاجر في تكوين 16 أن سارة تسمّيها "الجارية" و"جاريتي" وإبراهيم يسمّيها "جاريتك" ولا يناديها باسمها إلا الربّ نفسه، "يا هاجر"، فلا غرابة أن تسمّيه "إيل رئي"، الرب الذي يرى، ويظهر لها الملاك في تكوين 21 ومن جديد يناديها باسمها فهو الراعي الصالح الذي يدعو خرافه الخاصة بأسماء. أرادت المجدليّة على ما يبدو أن تلمس قدميه المثقوبتين، وآثار المسامير فيهما. أخذت حفيدتي الصغيرة في طبيعة الربيع الجميل، وقلت لها "انظري الزهور" فقالت، "أريد أن ألمسها". هذا ما وضعه الله فينا أننا نودّ لجميع حواسنا أن تدرك ما هو رائع، لكن يسوع لم يرد أن تتمسّك مريم به.

4. مريم المجدلية أول المبشرين بقيامة يسوع
أعطاها سيّدها رسالة وهي بشارة للتلاميذ، ومن منّا لا يحبّ نقل البشائر؟ وأطاعت لكنهم رأوا فيها ما يدعو للحيرة عوضًا عن الفرح، وكما قال تلميذا عمواس ليسوع بعد ساعات "بَلْ بَعْضُ النِّسَاءِ مِنَّا حَيَّرْنَنَا إِذْ كُنَّ بَاكِرًا عِنْدَ الْقَبْرِ، وَلَمَّا لَمْ يَجِدْنَ جَسَدَهُ أَتَيْنَ قَائِلاَتٍ: إِنَّهُنَّ رَأَيْنَ مَنْظَرَ مَلاَئِكَةٍ قَالُوا إِنَّهُ حَيٌّ" (لوقا 22:24-23)، فوبّخهما يسوع، كما وبّخ الأحد عشر الذين لم يصدّقوها (مرقس 14:16). ساعدنا يا ربّ لنكون كمريم المجدليّة في خدمتنا واتّباعنا ومحبّتنا وشهادتنا.

المجموعة: نيسان (إبريل) 2025