طُلِب من رسّامَيْن أن يرسم كلٌّ منهما منظرًا يعبّر فيه عن السلام. فرسم الأوّل منظرًا بديعًا،
وفي صدر الصورة رسم بحيرة وقد بدا سطحها هادئًا، وقد اكتنفتها الأشجار، وامتدّت الأمواج على مدى البصر، والماشية ترعى بسكينة، كما ظهر كوخ صغير، تعكس عليه الشمس الغاربة أشعّتها الذهبيّة، مشهد ينطق بالاستقرار والسكون المطلق.
أما الرسّام الثاني، فقد رسم مشهدًا عاصفًا لبّدت الغيوم السوداء سماءه، وفي وسط الصورة شلّالاتٌ صاخبة تنحدر منها المياه المزبدة المضطربة، حتى يخيّل للرائي أنه يسمع خرير المياه وعجيجها الذي لا ينقطع، إلّا أن ما يسترعي النظر لأوّل وهلة وجود عصفور صغير جاثم في شقّ صخرة عاتية وقد احتمى تمامًا ممّا يحيط به من أهوال، وهو يصدح بألحانه الشجيّة طربًا غير مبالٍ بشيء.
هذا ما يجب أن نتعلّمه، أن السلام الحقيقيّ يملأ القلب حتى في وسط عواصف الحياة.
وهذا يذكّرنا أيضًا، بحالة تلاميذ المسيح بعد صلبه ودفنه في القبر الذي وُضِع عليه حجرٌ كبيرٌ خُتِم بخاتم الدولة الرومانيّة، وكان محروسًا بعسكر مدجّجين بالسلاح. هذا المشهد أفقد التلاميذ آمالهم في المسيح، وملأ قلوبهم رعبًا، ظنًّا منهم أن معلّمهم وقائدهم طوال السنين الماضية، قد مات ودُفن، وانتهى كلّ شيء بالنسبة لهم. فالموت هو نهاية كلّ شيء كما كانوا يظنّون. لقد نسوا ما سبق المسيح وقاله لهم، وأكّده بأنه سيموت ويُدفن وفي اليوم الثالث يقوم.
قد نلوم التلاميذ الذين عايشوا المسيح لمدة ثلاث سنوات، وننسى أننا نقع في ذات الخطأ الذي وقع فيه التلاميذ بل وأسوأ. فنحن نركّز على الحدث الذي نحن فيه وأيضًا على الأحداث من حولنا؛ وما يصيبنا من أمراض وآلام وتجارب، وننظر إلى جسامتها وخطورتها، ونفكّر ونحلّل ما يلحقنا من أضرار وأخطار بسببها، وننسى أو نتناسى أقوال الله ومواعيده الصادقة والأمينة معنا، فنقع في شبكة الخوف ونفقد سلامنا واطمئناننا، وندخل العلّيّة ونغلق على أنفسنا من الخوف، وقد نوقف أنشطتنا ونتوارى عن الأنظار بعيدًا عن المشاكل، خوفًا على أنفسنا وعلى عائلاتنا وأولادنا ومستقبلنا، وكأن السلام لا مكان له في حياتنا إلّا في الهدوء والحالة الصحيّة الجيّدة، والأحوال المعيشيّة الحسنة، والوضع الاجتماعي الموفّق، والعبادة الهادئة بعيدًا عن الاضطهادات والمنغّصات والآلام.
كما سبق وذكرت أنه بموت المسيح انتابت التلاميذ حالة من الاضطراب والقلق، ونستطيع أن نلمس مظاهره في الحزن الذي ملأ قلوبهم، والشك الذي عصف بإيمانهم، والخوف الذي بدّد سلامهم. بالنسبة لتلميذَيْ عمواس، لقد أُمسِكت أعينهما عن معرفته بالرغم من حديثه معهما، حتى أنه قال لهما السيد المسيح: "ما هذا الكلام الذي تتطارحان به وأنتما ماشيين عابسين؟" (لوقا 17:24)
كما أن توما، أحد الاثني عشر فلم يكن معهم حين جاء يسوع فقال له التلاميذ: "قد رأينا الرب!" فقال لهم: "إن لم أبصر في يديه أثر المسامير، وأضع أصبعي في أثر المسامير، وأضع يدي في جنبه لا أؤمن." (يوحنا 24:20–25) وكان التلاميذ مجتمعين بداخل الأبواب المغلّقة "لسبب الخوف من اليهود" (19:20).
وانطلاق المريمات إلى قبر يسوع حاملاتٍ الحنوط الذي أعددنه، ومعهنّ أناس في أوّل الأسبوع، إنما يعبّر عن مدى الفشل والحزن والشكّ والخوف الذي استولى على التلاميذ وعلى كثير من المؤمنين. في وسط هذه العواصف التي كانت تقصف بحياتهم، جاء يسوع المقام من بين الأموات، ووقف في وسط التلاميذ و"أراهم أيضًا نفسه حيًّا ببراهين كثيرة، بعدما تألّم، وهو يظهر لهم أربعين يومًا، ويتكلّم عن الأمور المختصّة بملكوت الله". (أعمال 2:1)
لقد جاء يسوع ووقف في وسطهم:
ليفتح عيونهم إلى شخصه الحيّ "فانفتحت أعينهما وعرفاه (تلميذي عمواس) وأما هما فكانا يخبران بما حدث في الطريق، وكيف عرفاه عند كسر الخبز". (لوقا 31:24–35)
ليملأ قلوبهم بالفرح ويبدّد حزنهم "ففرح التلاميذ إذ رأَوْا الرب". (يوحنا 20:20)
ليمنحهم سلامه الذي يفوق كل عقل، وينزع مخاوفهم بقوله: [سلامٌ لكم!]". ( 19:20)
ليقوّي إيمانهم ويزيل الشكوك من قلوبهم - "ثمّ قال لتوما: [هات إِصبِعك إلى هنا وأبصر يديّ، وهات يدك وضعها في جنبي، ولا تكن غير مؤمنٍ بل مؤمنًا". (27:20)
ليؤكّد ثقته فيهم رغم ضعفاتهم، فقال لبطرس: "يا سمعان بن يونا، أتحبّني؟... ارْعَ خرافي..." وكرّر عليه السؤال ثلاث مرّات ليحمّله مسؤولية الرعاية والخدمة (15:21–17).
ليسلّمهم مشعل الكرازة والتبشير ومسؤوليّة إتمام المأموريّة العظمى، فقال لهم: "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعلّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كلّ الأيّام إلى انقضاء الدهر". (متى 19:28–20)
ليؤكّد لهم وعده بالروح القدس، وفيما هو مجتمع معهم أوصاهم أن لا يبرحوا من أورشليم بل ينتظروا موعد الآب ... وقال لهم أيضًا: "وها أنا أرسل إليكم موعد أبي. فأقيموا في مدينة أورشليم إلى أن تُلبَسوا قوّة من الأعالي". (لوقا 49:24)
ألا ترى عزيزي القارئ، أن يسوع لا يتركنا لوحدنا نتخبّط في وسط عواصف الحياة، بل يأتي مشجِّعًا إيّانا وقائلًا: "تشجّعوا! أنا هو لا تخافوا". فيسوع حبيب قلوبنا يأتي إلينا في وسط أحزاننا ليمسح دموعنا ويفرح قلوبنا، ويأتي إلينا في خوفنا ليمنحنا سلامه.
ويأتي إلينا في فشلنا ليرفع من معنوياتنا، كما يأتي إلينا في ضعفنا وشكوكنا ليثبّت ويقوّي إيماننا؛ لأن وعده لنا "وها أنا معكم كلّ الأيّام إلى انقضاء الدهر... سلامًا أترك لكم، سلامى أعطيكم. ليس كما يُعطي العالم أعطيكم أنا. لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب".
ثق أيها القارئ المبارك أن يسوع يقف معنا في وسطنا، فاشكره في كلّ حين وعلى كلّ شيء مهما كانت العواصف شديدة لأن يسوع يقف بجوارك ومعك دائمًا.