يُبرز سفر الخروج واحدة من أعظم الحقائق الروحية: أن الله لا يخلّص فقط، بل يقود ويُشكّل.

يظهر هذا بوضوح في امتحانه لشعبه في برية سين، وهو امتحان كشف ما في القلوب، وغرس دروسًا عميقة عن الثقة والطاعة.
كاتب سفر الخروج هو النبي موسى، الذي دوّن الأسفار الخمسة الأولى من الكتاب المقدس، والمعروفة بـ "التوراة" أو "أسفار موسى الخمسة" (راجع خروج 4:24، تثنية 9:31). ويأتي هذا السفر بعد سفر التكوين، حيث نقرأ عن خلق الإنسان على صورة الله (تكوين 26:1)، وسقوطه في الخطية (تكوين ٣)، والطوفان في أيام نوح (تكوين ٦–٩)، ثم اختيار الله لإبراهيم ليقيم منه أمة عظيمة (تكوين 1:12–3)، ويبارك من خلاله جميع شعوب الأرض (تكوين 18:22). وقد أكّد الله هذه الوعود لإسحاق ويعقوب من بعده (تكوين 3:26–٥، 13:28–١٤).
مع بداية سفر الخروج، نرى كيف بدأ الله يتمّم وعوده، إذ تكاثر شعب إسرائيل في أرض مصر رغم العبودية والقسوة (خروج 7:1، ١٢). ثم أعدّ الله موسى، الذي نجا من القتل، وتربّى في قصر فرعون، لقيادة هذا الشعب نحو أرض الموعد. ظهر الرب له في العلّيقة المشتعلة ودعاه لمهمة مقدّسة: تحرير شعبه (خروج 1:3–١٠).
فبِيَدٍ قديرة، أخرج الرب شعبه من أرض العبودية، مظهرًا آياته في الضربات العشر، ليُعلن أن يهوه هو الإله الحقيقي، فوق جميع آلهة مصر (خروج 12:12، 31:14). ثم قادهم في البرية بعمود سحاب نهارًا وعمود نار ليلًا (خروج 21:13–٢٢)، ليعلّمهم أن حضوره معهم لا يغيب، حتى في أقسى الظروف. فالله لم يفارق شعبه.
لكن رغم كلّ هذا، نقرأ في خروج 2:16–٣ أن الشعب، بعد وصوله إلى برية سين، تذمّر على موسى وهارون قائلين: "ليتنا متنا بيد الرب في أرض مصر، إذ كنا جالسين عند قدور اللحم، نأكل خبزًا للشبع!" كان هذا التذمّر تعبيرًا عن ضيقهم من الجوع، وحنينهم إلى طعام العبودية، رغم أن الله أخرجهم إلى طريق الحرية. لقد فضّلوا الشبع تحت نير العبودية، على الجوع المؤقت تحت قيادة الله. وهذا كشف عن ضعف في الإيمان، وقلّة في الثقة برعاية الله الذي أخرجهم بيده القديرة.
لكن المدهش هو أن الله، رغم تذمّرهم، أعلن لهم رحمته قائلًا لموسى: "ها أنا أمطر لكم خبزًا من السماء. فيَخرُجُ الشعب ويلتقطون حاجة اليوم بيومها. لكي أمتحنهم، أيسلكون في ناموسي أم لا؟" (خروج 4:16) في هذه العبارة نلاحظ رسالتين:

أولًا: العناية الإلهية
رغم أن البرية مكان قاحل، وعد الله أن يُطعمهم يومًا بيوم، لا مرّة واحدة، بل باستمرارية. هذا يكشف أن الله يهتمّ بكلٍّ تفاصيل الحياة اليوميّة، وأن من يتّكل عليه لا يعوزه شيء (راجع مزمور 1:23).

ثانيًا: الامتحان الإلهي
لم يكن المنّ فقط للطعام، بل أيضًا لاختبار الإيمان. أراد الرب أن يرى إن كانوا سيطيعونه، ويتّكلون عليه دون تذمّر. لقد أعلن ذاته لهم، وأعطاهم الشريعة، وكلّ ما رأوه من عجائب كان كافيًا للإيمان بكلمته (تثنية 3:8).
وهنا يطرح النص سؤالًا لنا اليوم: هل نثق في الله حين لا نرى أمامنا سوى "بريّة"؟ البريّة قد لا تكون صحراء فعليّة، لكنها قد تكون مرحلة صعبة أو طريقًا يبدو خاليًا من الحلول. فهي قد تكون وقتًا من الضيق المالي أو فترة من المرض أو شعور بالوحدة، وربما صراع داخلي مع الخوف أو حتى روتين مملّ وجاف. في كلّ هذه الظروف، تبدو "البريّة" واقعة علينا بثقلها، لكنها في نظر الله، ليست نهاية الطريق، بل موضع لقاء وتشكيل وإعداد.
في كل هذه الأمور التي قد نمرّ بها، هل نشكر الله على عطاياه اليوميّة، أم نأخذها كأمر مسلَّم به؟ إن الطاعة اليوميّة، والامتنان في القليل، هما علامات قلب يعرف الله، ويسير بإيمان حقيقي. تذكّر، عزيزي القارئ، أن الله لم يُعْلِن عن عنايته فقط في القديم، حين أطعم شعب إسرائيل من السماء، بل أعلن محبّته بصورة أعظم وأكمل، حين قدّم لنا عطيّة لا تُقدَّر بثمن: ابنه الوحيد يسوع المسيح، المنّ الحقيقي النازل من السماء.
قال الرب يسوع: "أنا هو خبز الحياة. آباؤكم أكلوا المنّ في البريّة وماتوا. هذا هو الخبز النازل من السماء، لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت." (يوحنا 48:6–٥٠) في المسيح، وهبنا الله الغفران والحياة الأبدية. وكلّ من يؤمن به ويعيش باتّحاد روحيّ معه، لن يعطش أو يجوع إلى الأبد، بل يجد الشبع والسلام الذي لا يزول. الله ما زال يمتحن القلوب، ليس ليُضعفها، بل ليُنقّيها، ويقودها إلى عمق جديد من الإيمان والطاعة.
فهل قلبك مكرّس له؟ هل تتبعه من كل القلب؟ إن المسيح يدعونا كل يوم لنأتي إليه كما كان الشعب يلتقط المنّ كلّ صباح.

المجموعة: حزيران (يونيو) 2025