إيليّا وهو إنسانٌ تحتَ الآلام مثلنا، اجتازَ يومًا بمشاعرَ من الخوفِ والاكتئابِ والهزيمة،
وظنَّ نفسَهُ وحيدًا لدرجة أنَّهُ طلبَ الموت، وكان السببُ أنَّ إيزابل الشريّرة، وهي زوجة الملك أخآب، أرسلتْ له تهديدًا ووعيدًا بأنّها ستجعلُهُ كواحدٍ من أنبياء البعل الذينَ قتلَهم هوَ بسيفِهِ، ونقرأ هنا أنّهُ "مضى لأجلِ نفسهِ... وجلسَ تحتَ رتمةٍ وطلبَ الموتَ لنفسهِ، وقال: [قد كفى الآن يا ربُّ. خُذْ نفسي لأنّي لستُ خيرًا من آبائي]". (1ملوك 4:19)
وأرسلَ الربُّ لهُ ملاكًا وطعامًا، ثمَّ سارَ مسافةً كثيرة ووصلَ إلى مغارةِ وباتَ فيها، وهناكَ ظهرَ له الربُّ وسألهُ: "ما لكَ ههنا يا إيليا؟" وكانت واحدة من حجج إيليا أنه "بقي وحدَهُ"، وهنا كلّفهُ الربُّ بتكليفاتٍ أكبر وأعظمَ من السابق، كرسامة ملوك ومسح أنبياء، وقال له بأنه ليسَ لوحدِهِ، "أبقيتُ في إسرائيل سبعةَ آلافٍ، كلَّ الركب التي لم تجثُ للبعل وكلَّ فمٍ لم يقبّلهُ".
قارئي العزيز: أنا لستُ هنا بصدد إدانة إيليا، بل على العكس فأنا أتعاطفُ معهُ، لأنّنا ترابٌ، ومن الطبيعي أن نجتازَ بمشاعر مختلفة، وتؤثّر علينا الظروف التي نجوزُ فيها، لكنّني هنا لأُدقّقَ معك بإجابةِ الربِّ لهُ في ظروفه الصعبة، وكيفَ طمأنَهُ وشدّدَهُ، فيقول الرب: "أبقيتُ لنفسي" أي أنه توجد بقية فليسَ إيليّا لوحدهِ ولا نحنُ لوحدنا.
وهذا يذكّرني بنبوءةِ إشعياء التي قال في مقدمتها أنّ العقابَ لإسرائيلَ قادمٌ لا محالة، لأنّهم تركوا الربَّ واستهانوا بقدّوس إسرائيل، فسيتمُّ خراب مدنهم وحرقها بالنار، لكنّه يقول في العدد التاسع من أصحاحهِ الأول: "لولا أنَّ ربّ الجنود أبقى لنا بقيّة صغيرة، لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة". ثمّ في أصحاحهِ السادس يظهر له الربُّ في الهيكل جالسًا على عرشِهِ ويتحدّث إليه عن توكيد الخراب، ويقول له: "غلِّظ قلبَ هذا الشعب وثقِّل أذنيه واطمس عينيه... إلخ" وهنا يسأل إشعياء سؤالًا مهمًّا ويقول: "إلى متى أيّها السيّد؟" والجواب السماوي يأتي ثقيلًا على المسامع، "إلى أن تصيرَ المدن خربةً بلا ساكن، والبيوت بلا إنسان، وتخْرَبَ الأرضُ وتُقفِر". ويختمُ الربُّ كلامَهُ وقضاءَهُ بالكثير من الأمل رغم ثبات الدينونة، فيقول: "ولكن كالبطمة والبلّوطة، التي وإن قُطِعت فلها ساقٌ، يكون ساقُهُ زرعًا مقدّسًا".
وبينما تُتابعُ قراءَتكَ لكلامي أنا أُصلّي أن تكونَ من بينِ هذهِ البقيّة الباقية والقطيع الصغير، وأن تكونَ سبب خلاصٍ ونجاةٍ وبركةٍ للذين هم من حولكَ. وأسألُ نفسي وإيّاكَ: ما هو دورُ هذه البقيّة الباقية في كل العصور؟ تعالوا نبحث عن إجابة بين سطور الوحي المقدّس:
أوّلاً: حمل الرسالة ونقلها للآخرين
كُتِبَ عن أنوش بعدَ ولادته: "حينئذٍ ابتُدِئَ أن يُدعى باسم الرب". وفي أيّام نوح قالَ الرب له: "إيّاكَ رأيتُ بارًّا لديّ في هذا الجيل ثم تنسّم الرب من ذبيحته رائحة سرور بعد الطوفان. وفي ميلاد المسيح يُخبرنا الإنجيل عن قلّة من الأتقياء المنتظرين مثل زكريا وأليصابات وسمعان الشيخ وحنّة بنت فنوئيل، وكذلك بالطبع يوسف البارّ ومريم العذراء، وجميعُهم رفعوا تسبيحًا وتمجيدًا للربّ بعد طول انتظار، فلا تخشَ في أعماقِكَ من قلّة عدد المؤمنين، ولا تظنَّ نفسكَ وحيدًا، واسمح لكلمات المسيح أن تُطمئن قلبَكَ: "لا تخفْ، أيّها القطيع الصغير، لأنّ أباكم قد سُرَّ أن يُعطيَكم الملكوت". (لوقا 32:12) فاعلم أنكم قطيعٌ حتى لو لم ترَ حولك الكثيرَ من المُخلِصين، وقلْ لنفسِكَ: قطيعٌ صغيرٌ مع راعٍ صالحٍ أضمن وأفضلَ وأثبت من قطيعٍ كبيرٍ جدًّا مع أجير، واذكر دومًا أن مهمّتَكَ هي إعلان رسالة راعيكَ مهما كثُرت الذئاب من حولك، ولا تنسَ أن عينَي الراعي عليك، وروحه معك، ويوجد حملان يشاركونكَ في المهمّة، وراعيكَ هو الأسد الغالب الذي لن يسمحَ للذئابِ الكثيرة بالمساسِ بك، وليكن مثالنا هو جماعة الكنيسة الأولى الذين تشتّتوا بفعل الاضطهاد وجالوا مبشِّرينَ بالكلمة... احمل الكلمة يا أخي وكنْ حاملًا للحضور الإلهي أينما سمحَ لكَ الربُّ أن توجد.
ثانياً: الصلاة وطلب مشيئة الرب
أتشجَّعُ كثيرًا بالأمل الموجود في قصّة السبي البابلي القديم، فرغم صعوبة الحدث إلّا أن الربَّ يكلّف المسبيِّين بالصلاة لأجلِ سلام المدينة التي سُبوا إليها ويقول لهم: "لأنه بسلامِها يكون لكم سلام". (إرميا 7:29) وهنا تظهر كلمات مهمّة جدًا من فم الربِّ: أفكارُهُ نحونا "أفكار سلام لا شرّ"، ويعطينا آخرة ورجاء، ويحثّنا على الصلاة فيقول: "... وتصلّونَ إليَّ فأَسمع لكم. وتطلبونني فتجدونني إذ تطلبونني بكلِّ قلبكم". (إرميا 12:29-13) فمكانك ليس ههنا يا إيليا بل على جبل الكرمل حيثُ تصلّي وتطلب استجابة من السماء فيستجيبك الربُّ بنارٍ مقدّسة تأكل الذبيحة علامةَ قبولها.
وهذا هو دورنا بإطاعة وصية الرب القائلة "ينبغي أن يُصلَّى كلّ حين ولا يُمَلّ"، لأن البقيّة الباقية (وأنتم منها) هي بقيّة تقيّة تسلك بمخافة الربّ وبطلب وجهه ومشيئته وسلطانه.
ثالثًا: متابعة التكليف والخدمة
قُمْ يا إيليّا امسح ملوكًا وأنبياء ولا تقل "خذ نفسي" فتكليفُكَ لم ينتهِ لأنك من بقيّة باقية تكليفها من ربِّ السماوات، ومكانَكَ ليسَ ههنا، وهذا الإحباط والخوف لا يليق بالإله الذي تعبدُهُ وقد قلتَ عنه: "حيٌّ هو الرب الذي وقفتُ أمامه"، وهتفُ له الشعب "الرب هو الله"!
أنت يا إيليا ستمسح أنبياء، وسوف يكونون من أتباعك ويسيرون على دربِ إيمانكَ وغيرتكَ، وسيُقال عنهم يومًا بعد رحيلك "قد علمتُ أنه رجلَ الله، مقدّسٌ الذي يمرُّ علينا دائمًا".
لا تفشل يا أخي القارئ إذا قويت هجمات إبليس، ولا تظنّ نفسكَ وحيدًا، واعلم أنه وبعد كلّ تقدُّم روحيّ سيحاربك إبليس أكثر، وما عليكَ سوى الاستمرار بالثبات وحمل الرسالة والصلاة ومتابعة التكليف إلى أن تأتي لحظة إكمال السعي. والرب يباركك.