القس منير سليمانذهب العم حنا من صعيد مصر إلى القاهرة ليبحث عن عمل، وأخذ معه خطاب توصية من قسيس بلدته. ولما وصل إلى القاهرة صلى: "يا رب، بكره ها روح الكنيسة وأنت ها تدبّرها بقى وكله للخير." بعد اجتماع الكنيسة، تقابل العم حنا مع الراعي وسلّمه خطاب التوصية، وعلى الفور قال له الراعي:

"أنا عندي وظيفة كاتب في الكنيسة، لو تحبّ، تشتغل!" أجابه العم حنا: "طبعًا أنا عاوز الشغلة دي." فسأله القسيس: "أنت تعرف تقرأ وتكتب؟" أجاب العم حنا: "لا." فقال له القسيس: "يبقى ما ينفعش!" زعل العم حنا جدًا وقال: "يا أبونا، يعنى ما فيش حلّ تاني؟" قال له القسيس: "خد الـ 8 جنيه، دول مرتّب شهر، وربنا يعوّضك (الـ 8 جنيه كانت قيمتهم كبيرة وقتها)." فقال العم حنا: "كله للخير!" اشترى العم حنا قفص طماطم وبدأ يبيع أمام الكنيسة. بعدها اشترى "عربية يد" يلفّ بها في الشوارع... ثم فتح دكانًا، والدكان كبر وأصبح اثنين. وكبر العمّ حنا وفتح شركة كبيرة.
وفي يوم جاءه شاب من بلدته - خريج جامعة - يطلب عملاً ومعه خطاب توصية من القسيس. أمسك العمّ حنا الخطاب يقلّبه شمالًا ويمينًا وهو "مش فاهم حاجة"، فسأله الشاب: "يا عمي حنا، إنتَ مش بتعرف تقرأ؟" أجابه: "لا، يا ابني." اندهش الشاب وعلى الفور قال له: "لما أنت مش بتعرف تقرأ وعندك كل هذه الأعمال دي، إمّال لو كنت بتعرف تقرأ، كان زمانك إيه؟" ضحك العم حنا وقال: "كان زماني شغّال في الكنيسة بـ 8 جنيهات! كله للخير يا ابني."
وردت هذه الحقيقة في رومية 28:8 "ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبّون الله..." وكذلك في إشعياء 10:3 "قولوا للصدِّيق خير!" ولنا في هذا الموضوع أمرين:

أولًا: الصدّيق، ومن هو؟
عندما نتأمل في الآيتين أعلاه، نلاحظ أنه وردت فيهما كلمة الخير، وعبارتان متشابهتان هما: الصدِّيق والذين يحبون الله، ونستنتج منهما أن الصدِّيق هو الذي يحبّ الرب، وبالتالي كل الأشياء تعمل معًا للخير للصدِّيق.
ويطلق البعض على يوسف ابن يعقوب أبي الأسباط لقب "يوسف الصدّيق."

لماذا يوسف الصدِّيق؟
1 – لأمانته في بيت سيده فوطيفار: فرغم أنه كان عبدًا لفوطيفار، صغير السن، وبعيدًا عن أحضان أبيه، لم نسمعه يتذمّر بل كان يعمل راضيًا بجدٍّ واجتهاد، فسلّمه سيّده كل ما له في البيت، وكأنه يقول: "كلّه للخير."
2 – لموقفه من التجربة الشريرة التي تعرّض لها من جرَّاء موقف امرأة فوطيفار وقال قولته الشهيرة: "كيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله؟"
3- لموقفه من إخوته، سواء كان في بيت أبيه، إذ أحبهم - مع أنهم حسدوه - وحمل لهم الطعام، وذهب يسأل عن سلامتهم حينما قال: "أنا طالب إخوتي،" ثم موقفه منهم عندما أتوا إليه في مصر ليشتروا قمحًا. وحتى بعد موت أبيهم يعقوب حين ظنوا أنه سينتقم منهم. لكن موقفه لم يتغيّر أو يتبدّل إذ قال لهم: "أنتم قصدتم لي شرًّا. أما الله فقصد به خيرًا." (تكوين 15:50-21) وكأنه يقول: "قولوا للصدِّيق خير!" عاش يوسف في علاقة حبٍّ مع إلهه ومع إخوته قبل مجيء الوصية التي تقول: "تحبّ الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك... وتحب قريبك كنفسك..." وهذا هو ملخص الناموس والوصايا. ونستطيع أن نقول عن الصدِّيق: إنه الشخص الذي له علاقة شخصية حميمية مع الله، يتّقيه ويخشاه ويحبه قبل كل شيء ويحب الآخرين أيضًا، أي إنه المؤمن الأمين المحب لله والآخرين.

ثانيًا: الصدِّيق والخير الذي له
هذه عبارات نرددها مرارًا كل يوم: صباح الخير، مساء الخير، تصبح على خير إلخ... والسؤال: هل لهذه العبارات معنى حقيقي في حياتنا أم أنها عبارات اعتدنا على تكرارها؟ ماذا يعنى الخير بالنسبة لنا؟ هل هو المال؟ الأولاد؟ الصحة؟ هل هو النجاح؟ الزواج؟ إلخ... ومن ناحية أخرى، هل في الموت خير؟ هل في المرض خير؟ هل في الفقر والخسارة خير؟ هل في الألم والضيق والاضطهاد خير؟ هل في الكوارث الطبيعية من زلازل وبراكين وحرائق وفيضانات خير؟ هل في الحروب والدمار خير؟
لعلك تجد الإجابة عن هذه التساؤلات في هذه القصة: كان لملك وزير مسيحي مؤمن، وكان الملك يحبه جدًا. وكان الوزير، مهما حدث يردّد دائمًا هذه العبارة: "لعلّه للخير." ومرة خرج الملك والوزير في رحلة صيد، فجرح الملك في إصبعه جرحًا بليغًا، فقال الوزير: "لعله للخير"؛ العبارة التي أغضبت الملك. وعندما قرر الأطباء بتر إصبع الملك، قال الوزير أيضًا: "لعلّه للخير." فغضب الملك وقرّر سجن الوزير، فصاح الوزير: لعلّه خيرًا. وبعد فترة خرج الملك للصيد فوقع أسير جماعة وثنية قرّرت تقديمه ذبيحة لإلههم. وحسب تقاليدهم يجب أن تكون الذبيحة صحيحة تمامًا. فلما وجدوا إصبعه مقطوعًا قرروا إطلاق سراحه. فلما عاد إلى قصره أمر بإطلاق سراح الوزير. فسأله الملك: الآن عرفت أن نجاتي كانت بسبب قطع إصبعي وهذا كان خيرًا لي، أما أنت، فما هو الخير في سجنك؟ أجاب الوزير: قطع إصبعك نجّاك من الموت، وسجني أنا منعني من الخروج معك للصيد. فلو كنت معك لأخذوني ذبيحة بديلاً عنك. فكله للخير.


وهنا أذكر بعض الأمور المرتبطة بخير الصدِّيق:

1- الخير الذي للصدّيق يتبعه كل أيام حياته، ولا يرتبط بالظروف المحيطة به، سواء كانت حسنة أو سيئة. "إنما خير ورحمة يتبعانني كل أيام حياتي." (مزمور 6:23)

2 – للصدّيق خير رغم الألم والضيق والحزن: لما كان لعازر حيًّا جلست مريم عند قدمي يسوع تسمعه، وانشغلت مرثا بالبيت. وعندما مات بكت أختاه عليه وحزنتا، وكان هذا الموت للخير. ولكن بعدما أقام المسيح لعازر من الموت، كسرت مريم قارورة الطيب ودهنت به قدميه ومسحتهما بشعر رأسها، وغيّرت مرثا موقفها فكانت تخدم، واختبرت الأختان حياة التكريس والخدمة.

3 – للصدِّيق خير وسط تدهور الحالة الاقتصادية: حينما كان العالم يجوع حوله، كان إيليا يأكل خبزًا ولحمًا صباحًا ومساءً... وأرملة صرفة صيداء كانت أيضًا تشبع هي وابنها، وكوار الدقيق لم يفرغ وكوز الزيت لم ينقص. هكذا قال في حبقوق 17:3-18 "فمع أنه لا يزهر التين، ولا يكون حمل في الكروم. يكذب عمل الزيتونة والحقول لا تصنع طعامًا. ينقطع الغنم من الحظيرة، ولا بقر في المذاود، فإني أبتهج بالرب وأفرح بإله خلاصي. الرب السيد قوتي، ويجعل قدميّ كالأيائل، ويمشيني على مرتفعاتي."
العالم يجوع ونحن نشبع! العالم يئن ونحن نشكر! العالم يكفر ونحن نؤمن! العالم يتساءل أين الله؟ ونحن نثق أن الله موجود! "اتّقوا الرب يا قدّيسيه، لأنه ليس عوز لمتّقيه. الأشبال احتاجت وجاعت، وأما طالبو الرب فلا يعوزهم شيء من الخير." (مزمور 9:34-10)

4 – للصدِّيق خير رغم ظلم الأشرار: كان مردخاي - عم الملكة أستير - على وشك أن يُصلب على الخشبة التي أعدّها له هامان، وكذلك شعب اليهود سيبادون بسبب مؤامرته، لكن الأمور تحوّلت فجأة كلها للخير لصالح مردخاي والشعب اليهودي فصُلب هامان على الخشبة التي أعدّها لمردخاي، وتولّى مردخاي مركزه! "قولوا للصدّيق خير!"
أقول في الختام إنه في كل الظروف الحلوة والمرّة، يكون للصدِّيق خير في كل أيام حياته.

المجموعة: شباط (فبراير) 2019