AdmaHabibiجاءنا الغيثُ الذي طالما تمنَّيناه، وبوِفرةٍ وفيضٍ زائدَيْن. هَمَى المطرُ في السفوح وهطلتْ معه الثلوجُ في قِمم الجبال، ورفعَ الناسُ شكرًا جزيلًا للمُعطي المنّان، الذي لديه النِّعَم والبركات، وفي يديه مفاتيحُ الماء في الجَلَد.

وانتعشتِ القلوبُ بمرأى زخَّاتٍ من المطر غزيرةٍ التي سرعان ما أحيتِ الأرض وبعثَتْها من جديد إلى الحياة. وبالتالي أحيتْ فينا الأملَ بعدَ الجمودِ والجفاف، ولبِستِ الأرضُ حُللًا خضراء دليلًا على جِدَّةِ الحياة وانبثاقِها من قلب الأرضِ والموت.
وانتهى الشُّحُّ وبدَتْ بوادرُ الربيع تظهر على التلال والمرتفعات. وعاد الأملُ يدغدغُ حنايانا ويملأُنا بكلِّ توقُّع من ثمرٍ وفيرٍ بحجمِ الغيثِ النازل والثلج الهاطل.
وما حَسِبْناه ميتًا، نراه وقد عادَ إلى الحياة، واخترقت البوادرُ الأرضَ المبلولةَ وصعدتْ فوقَ سطحِها للتأكيد على هذه الحياة الجديدة. وتمايلتْ أوراقُ هذه البوادر الخضراء بفعل نُسيمات الريحِ العليلة، وبدتِ البراعمُ المزدانةُ بالألوان تنبئُ باقترابِ تفتُّحها لتصبحَ أزهارًا يانعةً تتلألأُ تحت أشعة الشمس وضيائِها السَّاحر. نعم، هذه هي بركاتُ السماء التي همَتْ علينا فبدَّلتْ ما حولَنا، وغدَتْ فصولُ حياتِنا تتغيّر بفعلِها. وصار الأملُ واعدًا بغدٍ مشرق، والرجاء بأيامٍ قادمةٍ مثمرةٍ مبهِجةٍ يتجدَّد في كياننا كلِّه. هذا هو الأملُ المنبعِثُ من رَحِمِ الأرض.
وكهطولِ المطر ليُحيِيَ وجهَ الأرض، هكذا أيضًا تحتاجُ النفسُ البشريةُ في كثيرٍ من الأحيان إلى هذه الزخَّات الحيَّة والمُحيِيَة من الروح القدس لتنعشَها من جديد، فتستفيقُ من كلِّ جمود، ومن الفشل واليأس المتمكّنَيْنِ منها. أجل، لأنَّ النفسَ البشرية هي كذلك تئنُّ تحتَ وطأةِ الظروف العصيبة والآلام والأحزان وأهوال الحياة وأثقالها المُرهِقة. تئنُّ لكي تعود وترتفعَ فوقَها.
فنقرأ مثلًا في مزامير رجال الله القدّيسين عن أمنيات النفسِ الصادرة من الأعماق كمثَل عبدِ الرب داود الذي هتف قائلًا: "يا ليت لي جناحًا كالحمامة، فأطيرَ وأستريح." (مزمور 6:55) لقد عبّر داود بهذه الأمنية عن نفسٍ تبغي أن تحلِّقَ في الفضاء كما تحلِّقُ الحمامةُ لِيبتعدَ عن كلِّ ما يشغَلُ فكرَه وكلّ ما يملأ كيانه من أحاسيسَ ومتاعبَ كان يرزحُ تحتَها. وسبقتْ هذه الآيةُ الأسبابَ التي أراد فيها داودُ الملك أن ينأى بعيدًا علَّه ينسى. لقد تكلم داود بحرية معبِّرًا عن ظروفه التي كان يجتازُها من عنفٍ، وظلمٍ، وصراعاتٍ تحيطُ به من كل حَدْبٍ وصوْب. تعرّض خلال هذه الظروف للخوف والرُّعب والألم فوقعَ فريسةً في مخالبِ القلقِ والأرق فنسمعُه يصرِّح قائلًا: "يمخَضُ قلبي في داخلي، وأهوالُ الموت سقطت عليّ، خوفٌ ورَعدةٌ أتيا عليّ، وغَشِيني رعبٌ." فلا عجبَ إذن أنَّه تمنَّى أن يطيرَ ويرتفع إلى فوق إلى العلاء بعيدًا عن كلِّ ما يقضُّ عليه مضجعَه ويزعجُه.
تطلبُ نفسُ الإنسان أيًّا كان، من إلهِ السماء والأرض الخالق العظيم الذي صنع هذا العالم بكلمة مِن فيهِ وخلق الإنسان ليكونَ تاجَ الخليقة، تطلب منه لمسةً روحيةً منعِشة لتعودَ فتتجدَّد هي الأخرى تمامًا كما يتجدَّد وجهُ الأرض، وهكذا ينبثِقُ الأملُ من عمقِ الألم، وتعودُ النفسُ البشرية لتنتعشَ من جديد بفعلِ غَيثِ الروح القدس الهاطِل. تمامًا كما هتف صاحبُ الترنيمة ليقول:
نحتاجُ غيثًا، غيثَ يُمْنٍ هاطلًا
عندَنا طَلٌّ ولكنْ، نحنُ نرجو الوابِلَ
وحين سلَّم داودُ النبي ظروفَه ومشاكله التي يعاني منها، إلى الله، عندها نجدُه يرتفع ويرتقي ويحلِّق فيهتف ليقول: "أما أنا فإلى الله أصرخ، والربُّ يخلصني. مساءً وصباحًا وظهرًا أشكو وأنوح، فيسمع صوتي." (عدد 16-18) وليس هذا فحسب، بل يتعلم بذلك درسًا حكيمًا فينقلُه بالتالي إلى غيره مِن بعدِه في هذه العبارة: "ألقِ على الربِّ همَّك فهو يعولُك. لا يدعُ الصدِّيق يتزعزعُ إلى الأبد." (عدد 22)
هذا هو الغيثُ المطلوب الذي ترغبُه كلُّ نفسٍ بشرية تئنُّ تحتَ ثقلِ الظروف والمِحَن والأزمات والفقدان والأحزان. غيثُ الروح القدس الذي يبعثُ الحياة من جديد في القلب. فيفيض عندها الأمل والرجاء وينطلقُ معها الإنسانُ ويرتقي إلى العلاء محلِّقًا تاركًا وراءه كلَّ يأسٍ وفشلٍ وإحباط وكلَّ همٍّ وغَمّ. ويصبحُ كالنسر الذي يرتفع في الأعالي ليصلَ إلى قممِ الجبال الشاهقة. فعلًا، يا ليتَ لي جناحًا كالحمامة كي أطير... ليسَ لكي أتناسى ما يُقلقني، بل لأنَّني أثق بِمَنْ يحملُني على منكبَيْه.
لفتَ نظري ما كتبتُه من كثير في هوامشِ كتابيَ المقدس، وما سطَّرتُ تحتَه من آيات، وما سجَّلْتُه من تواريخ هامةٍ كانت بمثابة محطَّات مميزة في حياتي لن أنساها. وكلُّ آية خطّطتُ تحتها عادت فأحيَتْها زخّاتُ الغيث الهاطلة من السماء، إلى نفسي المنحنية آنذاك. فكم من آيات أحيَتْ إيماني وشدّدتني وقوّتني ورفعتني فوقَ صعوباتِ الأيام ومِحَنِ الزمان. لقد أنعش الروحُ القدس مواعيدَ الله في كلمته المقدسة في قلبي وأحاسيسي ووجداني، فارتقيتُ بها وبفِعْلها القويّ فوق ظروفي، وأحسستُ بذراعيّ القدير يحملانَني بعد أن سلّمتُه همِّي وقلقي. ما أحلى هذا الغيثَ الذي يُحِلُّ الفرحَ بدلَ الحزنِ، ويقطعُ الشكَّ باليقين ويشدِّدُ الرُّكب المخلَّعة والأيادي المسترخية. هذا هو الرجاءُ الحقيقي والأملُ الأكيد الذي تفجَّر يومَ القيامةِ المجيدة من قلبِ القبر الفارغ، قبرِ الرب يسوع المسيح، ليمنَح الناس، وكلَّ من يؤمن بالمُقام من بين الأموات، يمنحُهم حياةً جديدة، وأمَلًا فائضًا يكفي رحلةَ الحياة من أوَّلها إلى آخرِها، ونعمةً تجعلُ في القلب زَخمًا جديدًا يدفعُ كلَّ من يؤمن إلى الأمام، ليتقدّم ويرتقي ويحلِّق من جديد.
تحت عنوان "أنت ترفعني" You Raise Me Up يقول "بريندان غراهام" كاتبُ الترنيمة الشهيرة بالإنكليزية:
عندما أكونُ محبطًا، ونفسي مضطربةً من الهموم
عندما الضيقاتُ تحيط بي، وقلبي مثقلٌ بالآلام
عندئذٍ سأكون أمامَك بسُكون، وأنتظركُ بصمتٍ،
إلى أن تأتي، وتجلِسَ معي إلى حين!
بقية مقال: "نحتاج غيثًا"
أنتَ ترفعُني كي أستطيعَ الوقوفَ على الجبال،
ترفَعُني فأمتطي أمواجَ اليمِّ العاصف
أنا قويٌّ حينما أجلِس في حضنِك، أو أكونُ بينَ ذراعيك،
أنت ترفعني فأكونُ أكثرَ ما باستطاعتي أن أكون...
لا توجدُ نفسٌ لا تشعرُ بالجوع، وكلُّ قلب متعب ينبض بضعف،
لكن عندما تأتي إليّ يمتلئُ قلبي بالعُجْب، وأدرك عن يقينٍ بأنَّني أرى الأبدية.
أجل وتقيمُني على مرتفعاتي. ولنردِّد مع داود ختامًا هذه الآيات المُحيية عساها تفيضُ في قلوبنا غيثَ يُمْنٍ هاطلًا: "من أقصى الأرض أدعوك إذا غُشي على قلبي، إلى صخرةٍ أرفعَ مني تهديني، لأنك كنت ملجأً لي برجَ قوة... لأسكننَّ في مسكنِك إلى الدهور. أحتمي بسترِ جناحيك..." (مزمور 61)كتب

المجموعة: نيسان (إبريل) 2019