هل الصوم غاية وهدف أم هو وسيلة للوصول إلى غاية؟ البعض يصومون على اعتبار أنه فرضٌ عليهم، وآخرون يصومون لأن هناك غرضًا من الصيام.

هل عَلَّم الرب يسوع شيئًا بخصوص الصيام، ماهيته وكيفيته؟
في حديث الرب يسوع في عظة الجبل، والتي شملت ثلاثة أصحاحات من البشير متى، خصّص الرب جزءًا فيها تحدّث عن ثلاثة أنواع من أعمال البرّ المسيحي؛ الصدقة، الصلاة، والصوم (متى 1:6-١٨). وسيكون حديثنا في هذا العدد بخصوص ما قاله الرب عن الصوم.

أولاً: ما هو الصوم؟
الصوم، حسب ما تعلنه كلمة الله لنا، هو الامتناع عن الطعام وكل شيء للتفرُّغ للشركة مع الرب أو التذلّل مع الصلاة لأجل أمرٍ معيّن. وهذا يتّضح من كلام أستير لمردخاي عندما قالت له: "صُومُوا مِنْ جِهَتِي وَلاَ تَأْكُلُوا وَلاَ تَشْرَبُوا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لَيْلاً وَنَهَارًا." (أستير 16:4) وهذا ما أمر به ملك نينوي أهلها "لاَ تَذُقِ النَّاسُ وَلاَ الْبَهَائِمُ وَلاَ الْبَقَرُ وَلاَ الْغَنَمُ شَيْئًا. لاَ تَرْعَ وَلاَ تَشْرَبْ مَاءً. وَلْيَتَغَطَّ بِمُسُوحٍ النَّاسُ وَالْبَهَائِمُ وَيَصْرُخُوا إِلَى اللَّهِ بِشِدَّةٍ وَيَرْجِعُوا كُلُّ وَاحِدٍ عَنْ طَرِيقِهِ الرَّدِيئَةِ." (يونان 7:3-٨)
أرجو أن نلاحظ أن الصيام ليس هو ثمن البركة الذي ندفعه، فالبركة ثمنها دم المسيح فقط. أما الصوم فهو إعلان صادق عن الاحتياج للبركة، كما أنه إظهار ضبط النفس الذي يميِّز المسيحي الذي يضبط نفسه في كل شيء.

ثانيًا: متى نصوم؟
لم يحدّد الرب يسوع، وهو يتكلّم عن الصوم في عظة الجبل، توقيتًا محدَّدًا للصوم لذلك يقول: "وَمَتَى صُمْتُمْ... وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ." (متى 16:6-١٧) وهذا ما أكَّده الرسول بولس لأهل كولوسي قائلاً: "فَلاَ يَحْكُمْ عَلَيْكُمْ أحَدٌ فِي أكْلٍ أوْ شُرْبٍ، أوْ مِنْ جِهَةِ عِيدٍ أوْ هِلاَلٍ أوْ سَبْت." (كولوسي 16:2) أي لا يوجد موسم أو ميعاد محدّد، ولا يوجد أنواع معينة من الأطعمة تؤكل والأخرى لا.
هناك صومٌ فردي وآخر جماعي: فلقد صام قديمًا نحميا وحده في الأَسْر، ولأيام كثيرة لأجل شعبه وحالتهم الأدبية من ناحية ولأجل حالة أورشليم من ناحية أخرى. وصام داود بتوبة وانكسار أمام الرب لأجل ابنه المريض "فَسَأَلَ دَاوُدُ اللَّهَ مِنْ أَجْلِ الصَّبِيِّ، وَصَامَ دَاوُدُ صَوْمًا." (٢صموئيل 16:12) ويعطينا الكتاب مثالاً أيضًا لامرأة مُسنَّة تصوم لا لطلب محدّد بل عابدة للرب "وَكَانَتْ نَبِيَّةٌ حَنَّةُ بِنْتُ فَنُوئِيلَ... وَهِيَ أَرْمَلَةٌ نَحْوَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً لاَ تُفَارِقُ الْهَيْكَلَ عَابِدَةً بِأَصْوَامٍ وَطِلْبَاتٍ لَيْلاً وَنَهَارًا." (لوقا 36:2-٣٧)
والصورة الأخرى للصوم هي الصوم الجماعي، وهذا يتَّفق عليه المؤمنون معًا لطلب وجه الرب، تمامًا مثلما حدث في كنيسة أنطاكية عندما أرادوا اختيار خادمين "وَبَيْنَمَا هُمْ يَخْدِمُونَ الرَّبَّ وَيَصُومُونَ قَالَ الرُّوحُ الْقُدُسُ: أَفْرِزُوا لِي بَرْنَابَا وَشَاوُلَ لِلْعَمَلِ الَّذِي دَعَوْتُهُمَا إِلَيْهِ." (أعمال 2:13) ومثلما حدث مع أهل نينوى عندما صامت كل المدينة لإعلان توبتهم أمام الله حتى لا يأتي عليهم الغضب نتيجة شرورهم.

ثالثًا: كيف نصوم؟
يقول الرب يسوع: "وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِمًا بَلْ لأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ." (متى 17:6-١٨) يظن الكثيرون أن الصوم مجرّد انقطاع عن الطعام أو بعض أنواع من الأطعمة، ثم بعد ذلك اعمل أي شيء تحت مبدأ غريب يُسمّى "سلّي صيامك"! لكن، حسب كلمة الله الصوم الحقيقي هو:
١. الامتناع الكامل عن كل شيء: سواء كان طعامًا أو شرابًا أو تسلية، لفترة محددة، للتفرّغ فيها أمام الرب.
٢. الصوم مرتبط بالتذلل والتوبة: لا قيمة للصوم دون انكسار أمام الرب "أَذْلَلْتُ بِالصَّوْمِ نَفْسِي." (مزمور 13:35)
٣. الصوم مرتبط بالصلاة: لا بدّ أن يُصاحب الصوم تضرّع وصلاة وشركة أمام الرب "فَصَامُوا حِينَئِذٍ وَصَلُّوا وَوَضَعُوا عَلَيْهِمَا الأَيَادِيَ ثُمَّ أَطْلَقُوهُمَا." (أعمال 3:13)
٤. الرب ينظر إلى حالة القلب وليس المظهر الخارجي: "وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِمًا بَلْ لأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ." (متى 17:6-١٨)

رابعًا: مكافأة الصوم
هناك من تظاهر بالصوم فنال أجرته من الناس "اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ"، لكن ما أروع ما يوجه الرب يسوع أنظارنا إليه! "فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً." (متى 16:6-١٨)
ولنا في دانيآل المحبوب مثال رائع لاستجابة الرب، فيقول دانيآل:
"فَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَى اللَّهِ السَّيِّدِ طَالِبًا بِالصَّلاَةِ وَالتَّضَرُّعَاتِ بِالصَّوْمِ وَالْمَسْحِ."
ثم جاءت الاستجابة "وَأَنَا مُتَكَلِّمٌ بَعْدُ بِالصَّلاَةِ إِذَا بِالرَّجُلِ جِبْرَائِيلَ الَّذِي رَأَيْتُهُ فِي الرُّؤْيَا فِي الاِبْتِدَاءِ مُطَارًا وَاغِفًا (طائرًا بسرعة) لَمَسَنِي عِنْدَ وَقْتِ تَقْدِمَةِ الْمَسَاءِ. وَفَهَّمَنِي وَتَكَلَّمَ مَعِي وَقَالَ: يَا دانيآل إِنِّي خَرَجْتُ الآنَ لِأُعَلِّمَكَ الْفَهْمَ." (دانيآل 3:9-٢٢)
إخوتي الأحباء ما أحوجنا لممارسة هذه الفضيلة، أقصد الصوم المرتبط بالصلاة والانكسار أمام الرب. لقد مارسها واختبرها كل رجال الله، وعاشها الرب يسوع أيام تجسده، فكان للصوم أثر كبير في شركتهم مع الرب، واستجابات الصلاة، وحياة النصرة والقوة وضبط النفس.
هل نعود للصوم والصلاة، أفرادًا وجماعةً؟ دعونا لا ننسى المكتوب القائل: "الَّذِينَ يَزْرَعُونَ بِالدُّمُوعِ يَحْصُدُونَ بِالاِبْتِهَاجِ." (مزمور 5:126)

المجموعة: أذار (مارس) 2022