نقرأ في نهاية رسالة بولس الرّسول إلى تيطس كلماته الختاميّة، والتي كتبها بوحيٍ من الله:

"حِينَمَا أُرْسِلُ إِلَيْكَ أَرْتِيمَاسَ أَوْ تِيخِيكُسَ بَادِرْ أَنْ تَأْتِيَ إِلَيَّ إِلَى نِيكُوبُولِيسَ، لأَنِّي عَزَمْتُ أَنْ أُشَتِّيَ هُنَاكَ. جَهِّزْ زِينَاسَ النَّامُوسِيَّ وَأَبُلُّوسَ بِاجْتِهَادٍ لِلسَّفَرِ حَتَّى لاَ يُعْوِزَهُمَا شَيْءٌ. وَلْيَتَعَلَّمْ مَنْ لَنَا أَيْضًا أَنْ يُمَارِسُوا أَعْمَالًا حَسَنَةً لِلْحَاجَاتِ الضَّرُورِيَّةِ، حَتَّى لاَ يَكُونُوا بِلاَ ثَمَرٍ. يُسَلِّمُ عَلَيْكَ الَّذِينَ مَعِي جَمِيعًا. سَلِّمْ عَلَى الَّذِينَ يُحِبُّونَنَا فِي الإِيمَانِ. النِّعْمَةُ مَعَ جَمِيعِكُمْ. آمِينَ."
(تيطس 12:3-15)
كرّس بولس الرّسول حياته بعد إيمانه في خدمة الرّب يسوع، وكان تصميمه على التّبشير ونشر رسالة الإنجيل راسخًا، واتّسعت خدمته لتشمل بلاد المشرق وأوروبا. وفي معظم رحلاته وخدماته، لم يعمل بولس على إنجاز مهمته بشكل منفرد، بل اشترك معه آخرون. فكل شخص له دوره وخدمته وقيمته في حياة الكنيسة.
ما أسهل أن يقع شخص بقوة وصلابة بولس الرّسول في تجربة الرغبة في العمل منفردًا، فالشّخص القوي عادةً يعتقد بأنه يستطيع أن يقوم بكل المهمات بمفرده، ولكن لم يفكّر بولس الرّسول بهذا الأسلوب. فصحيح أنّه كان يعرف تمامًا ماذا يريد أن يعمل وينجز، فقد جاءته الدّعوة للخدمة من الرّب يسوع بشكل شخصي، ولكنه كان باستمرار يخدم بمرافقة غيره من الإخوة في الكنيسة. لقد كان بولس الرّسول القائد والموجه والمنفذ لخدماتٍ كثيرة، ولكنّه أدّى خدمته بالعمل مع فريقٍ من الإخوة من خدّام الرّب.
عادة ما يلجأ القارئ، وحتى المؤمن المسيحي الناضج، في المرور سريعًا على التحيات الختامية في رسائل بولس. فهي في الظاهر تبدو سهلة ولا تحتوي على أية تعاليم عميقة، مع أنّها في الغالب تحمل رسائل ووصايا وتعاليم ضروريّة في حياة الكنيسة العمليّة. وهنا في رسالته إلى تيطس، نجد أنّ الزخم في الرسالة قد انتهى في الآية رقم 11 من الأصحاح الثّالث. ولكنّنا مع ذلك نجد بأن بولس الرّسول يطلب في الآيات الختامية من الرّسالة ثلاثة أشياء من تيطس:
1. الآية 12 طلب من تيطس أن يأتي إليه.
2. الآية 13 وطلب من تيطس أن يجهز زيناس وأبلوس للسّفر.
3. الآية 15 وأخيرًا طلب من تيطس أن يسلّم على الذين يحبوننا في الإيمان.
نكتشف في هذه الطلبات الثلاث بأن بولس الرّسول كان يثمّن ويقدّر الصداقة والتعاون والشركة مع الإخوة، وكيف أنّه اعتمد كثيرًا على مساهمة الآخرين في خدمته وحتّى أمور حياته الشّخصيّة. ففي هذه الطلبات نجد أهميّة الإخوّة في نظر بولس.

الطلب الأول: "بَادِرْ أَنْ تَأْتِيَ إِلَيَّ إِلَى نِيكُوبُولِيسَ". يشير فعل "بادر" في الأصل اليوناني إلى السرعة في التنفيذ. فقد كان بولس الرّسول بحاجة ملحة للأخ تيطس، ولكنه في نفس الوقت لم يكن يريد أن يترك فراغًا في مكان تيطس في جزيرة كريت، لذلك طلب منه أن يأتي إليه بعد وصول أرتيماس أو تيخيكس. لم يشأ الله أن يترك كنيسته في كريت بدون قائدٍ أو راعٍ، ولذلك أوحى لبولس أن يكتب هذه المشيئة لتلميذه تيطس. أما بخصوص الأخوين اللّذَين ذكرهما بولس، فإنّنا لا نعرف شيئًا عن أرتيماس، ونعرف عن تيخيكس القليل الّذي نقرأه في رسلة كولوسي 7:4 "تِيخِيكُسُ الأَخُ الْحَبِيبُ، وَالْخَادِمُ الأَمِينُ، وَالْعَبْدُ مَعَنَا فِي الرَّبِّ".

الطلب الثاني: "جَهِّزْ زِينَاسَ النَّامُوسِيَّ وَأَبُلُّوسَ بِاجْتِهَادٍ لِلسَّفَرِ حَتَّى لاَ يُعْوِزَهُمَا شَيْءٌ". يجسّد بولس الرّسول هنا حرصه الشّديد على تأمين احتياجات الإخوة الخدام، أي أنّه كان يحبّ الإخوة ويهتم بتأمين ما يحتاجون إليه. كان زيناس وأبلّوس يخدمان مع تيطس في جزيرة كريت في البحر الأبيض المتوسّط، ويبدو أنّ زمن خدمتهما هناك قد انتهى. فقد ساهما في تأسيس الكنيسة وتعليم وتلمذة الإخوة والأخوات مع الأخ تيطس، وحان وقت سفرهما والانتقال إلى مكانٍ آخر للخدمة. ونعرف بأن السّفر عادةً يتطلّب تجهيز احتياجات أساسيّة مثل الطّعام واللّباس والأموال. ولتوفير هذه الإحتياجات الإنسانيّة الأساسيّة، طلب بولس الرّسول في رسالته لتيطس بأن يقوم بتأمين هذه الإحتياجات للأخوين زيناس وابلّوس.
لا نعرف شيئًا عن زيناس، فلم يُذْكر اسمه في أي موضع آخر في العهد الجديد. وكلّ ما نعرفه هو لقبه "النّاموسي"، والكلمة في اليوناني هي νομικός (نوميكس) وتعني محامي (في المعنى المدني للكلمة)، أو الخبير في ناموس العهد القديم. وزيناس هو المحامي المسيحي الوحيد المذكور في العهد الجديد.
لا نعرف إن كان زيناس خبيرًا في ناموس وشريعة العهد القديم، أي في كلمة الله ووصاياه، أو في الشريعة اليونانية. فالمهم هنا أنه كان هنالك شخص روماني الأصل، وخبير بالشريعة، ومؤمنًا بالرب يسوع. وشخص مثله يُعتبَر ثروة وبركة للكنيسة في دفاعها عن حقِّ الإنجيل. فهو شخصٌ يستطيع أن يعلّم ويدرّب غيره، ويمكنه إعطاء النصيحة والمساعدة في الخدمة.
أمّا أبلّوس، فإنّنا نعرف أنه رجل مصري من مدينة الاسكندرية الّتي كانت معروفة بمكتبتها الشهيرة، حيث نقرأ في سفر أعمال الرسل 24:18-28 "ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى أَفَسُسَ يَهُودِيٌّ اسْمُهُ أَبُلُّوسُ إِسْكَنْدَرِيُّ الْجِنْسِ رَجُلٌ فَصِيحٌ مُقْتَدِرٌ فِي الْكُتُبِ. كَانَ هَذَا خَبِيرًا فِي طَرِيقِ الرَّبِّ. وَكَانَ وَهُوَ حَارٌّ بِالرُّوحِ يَتَكَلَّمُ وَيُعَلِّمُ بِتَدْقِيقٍ مَا يَخْتَصُّ بِالرَّبِّ. عَارِفًا مَعْمُودِيَّةَ يُوحَنَّا فَقَطْ. وَابْتَدَأَ هَذَا يُجَاهِرُ فِي الْمَجْمَعِ. فَلَمَّا سَمِعَهُ أَكِيلاَ وَبِرِيسْكِلاَّ أَخَذَاهُ إِلَيْهِمَا وَشَرَحَا لَهُ طَرِيقَ الرَّبِّ بِأَكْثَرِ تَدْقِيقٍ. وَإِذْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَجْتَازَ إِلَى أَخَائِيَةَ كَتَبَ الإِخْوَةُ إِلَى التَّلاَمِيذِ يَحُضُّونَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوهُ. فَلَمَّا جَاءَ سَاعَدَ كَثِيرًا بِالنِّعْمَةِ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ آمَنُوا، لأَنَّهُ كَانَ بِاشْتِدَادٍ يُفْحِمُ الْيَهُودَ جَهْرًا مُبَيِّنًا بِالْكُتُبِ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ." لقد كان أبلّوس رجلًا مثقّفًا ومتعلّمًا وخبيرًا في كلمة الله، وكان طليقًا في الكلام. وكان زيناس خبيرًا في النّاموس والمحاماة، لذلك كان من الطبيعي أن ينسجما معًا.

الطلب الثالث: "سَلِّمْ عَلَى الَّذِينَ يُحِبُّونَنَا فِي الإِيمَانِ." أرسل بولس الرّسول سلامه عن طريق تيطس إلى كل الّذين يحبّونه في الإيمان، أي الّذين يحبونه على أساس إيمانهم المشترك بالرّب يسوع المسيح، أي أنّ سلامه كان لكلّ من يحبّ الرّبّ يسوع. وفي هذا السّلام درسٌ للكنيسة، أي لجماعة المؤمنين على اختلاف أعراقهم وجنسياتهم ولغاتهم بأن يحبّوا بعضهم بعضًا، وأن يسود السّلام والوفاق بينهم. فهل نسلّم على من يحبوننا في الإيمان؟ فهم الذين يجعلون حياتنا جميلة وغنية.
كل إنسان مهم وله دوره في الكنيسة والمجتمع، ولا يمكن للمؤمن المسيحي أن يعيش منعزلًا عن الإخوة والأخوات في الكنيسة. كل عضوٍ في الجسد يحتاج إلى بقيّة أعضاء الجسد. أعلن بولس عن احتياجه لتيطس. وعاش بولس ما كتبه، وكان مثلَه الأعظم شخص ربنا يسوع المسيح الذي عاش ما علَّمه.

المجموعة: أذار (مارس) 2022