Voice of Preaching the Gospel

vopg

نيسان (إبريل) 2009

أنا يهوذا بن سمعان والملقب بالاسخريوطي تمييزاً عن يهوذا الآخر. أما أصلُ الاشتقاق فهو من (إيش كريوت) أي رجل من "قريوت"، خربة القريتين اللَّتين تقعان على سفوح جبال اليهودية العريقة حيث نشأتُ وترعرعت. وأنا الوحيد الذي لم أكنْ أنتمي إلى الجليل من بين رفاقي الذين دعاهمُ السيد والمعلم العظيم يسوعُ المسيح. نعم، لقد سمعتُ نداءَه ولبَّيت دعوتَه أُسوةً بالتلاميذ وافتخرتُ في اتِّباعه.

  ورحت أرافقُ الأحدَ عشر في الذَّهاب إلى خراف بيت إسرائيل الضَّالة، لأكرزَ لهم بملكوت السموات، تماماً كما أتتْنَا الأوامر. هذا الملكوت الذي طالما انتظره أجدادي الأقدمون، وصرتُُ أنا أحلمُ بأن يكونَ لي فيه نصيبٌ كبير، ومركزٌ عريق.
لقد سُبيتُ فعلاً، عندما دعاني المعلم، بهذا السلطان الكبير الذي وهَبني، كأترابي الباقين، سلطانٍ على الأرواح النجسة لكي تخرج، وعلى المرضى لكي يُشفوا، وعلى الموتى لكي يَقوموا. آنذاك، دغدغَني شعورٌ بالفخر والاعتزاز لهذه الدعوةِ العظيمة، وهذه القوةِ الخارقة المرافقة.  لكنْ، وعلى الرَّغم من ذلك، فقد حذَّرنا السيد أن نكونَ حكماءَ كما الحيَّة، وبسطاءَ كالحمامة. وأذكر قولَه بالتمام إذ ذاك: "ها أنا أرسلكم كغنمٍ وسطَ ذئاب" (متى 10: 16).
وفي يوم من الأيام فاجأني السيِّدُ نفسُه وهو يخصُّني بأمانةِ الصندوق عن سائرِ التلاميذ. فسُررت في سرّي وقلتُ يومَها سوف أُريهِم كيف ينبغي أن نحافظ على المال فلا نُسرفُ كالمسرفين، ولا نوزِّعه هكذا هدراً كالمبذِّرين. وشكرتُه لأنَّه عهَدَ بالصندوق إليَّ أنا، وليس لآخرَ غيري. ألا تكفي هؤلاءِ الجليلين من أترابي،  مكانتُُهم المفضَّلة لديه إذ رافقوا السيدَ إلى بيت يايرس، حين أقام ابنته من الموت أمام أعينهم!! ثمَّ ألا تكفيهم أيضاً رفقتُهم له إلى جبلِ التجلي؟ حيث رأوهُ في مجدٍ باهر؟ حريٌّ بي وحدي إذن، أن تكونَ الخزينةُ بين يدي. بالحق لَكَمْ أحسنْتَ الاختيارَ أيُّها المعلمُ العظيم. وسرعانَ ما سنحتْ لي الفرصةُ لألقِّن الجميعَ درساً في الاقتصاد. إذ وفي ذات ليلة، وبينما نحنُ مجتمعون نتناولُ العشاءَ في بيت عنيا حيث كان لعازر الميت الذي أقامه السيدُ من الأموات، جاءت مريم أختُ لعازر بِمَنٍّ من طيبٍ ناردين كثيرِ الثمن ودهنت رجليَّ يسوع وراحتْ تمسحُهما بشعر رأسها. وامتلأ البيتُ كلُّه من رائحة الطيب. تعجَّبتُ لِمَا كان يحصل أمام ناظري!! وفكَّرت في سرِّي: لماذا هذا الإسرافُ الفاضح والتبذيرُ الكبير؟ وبعدها لم أمتلك نفسي، فقلتُ لِتوِّي أمام الجميع: "لماذا لم يُبع هذا الطيب بثلاثمئة دينار ويعطَ للفقراء؟" نعم، الفقراء والمعوزين... لم يجبني أحدٌ بكلمة. أما يسوع فقال: "اتركوها إنها ليومِ تكفيني قد حفِظَتْه. لأنَّ الفقراءَ معكم في كلِّ حين، وأمَّا أنا فلستُ معكم في كل حين" (يوحنا 12). وقعَ كلامُه عليَّ يومها كوقع الصاعقة، أنا أمينُ الصندوق المختار، الذي من شدةِ حِرصي على الصندوق كنتُ أخاف أن أتركَ شيئاً فيه لئلاَّ يمدَّ أحدٌ يده إليه. فأنا أولى به من غيري.
 بقيت كلماته عالقة في ذهني منذ تلك الليلة. وصرت أتساءل: لماذا حكى المعلِّمُ عن تكفينه؟ وإلى أين هو ذاهب؟ ثم لا زلتُ حتى الآن متحيِّراً في داخلي لأنَّه رفضَ عدةَ مراتٍ مِن قبلُ أن يجعلوه ملكاً علينا عساه يحررنا من العبودية! ألم يأتِ لهذا الغرض؟ ألم يدْعُنا لكي نكرزَ بالملكوت؟ فأيُّ ملكوت إذن هذا، إنْ كان يتكلم عن التكفين، أي الموت؟ آه، لقد خابَ أملي بكَ يا يسوع، خاب! وأحسست أنَّ اليأس بدأ يزحفُ إليَّ، وتسرعتُ أفكارٌ سوداء تداهِمُني وأصبحْتُ دائمَ السَّهر، والاستيقاظ، وأضحيتُ مشوّشاً، واعتراني الفشلُ الذَّريع.
ولكن ما أن قَرُبَ عيدُ الفطير أي الفصح، حتى كان رؤساءُ الكهنة والكتبة يطلبون المعلم لكي يقتلوه. وعندما علمتُ أنا بالأمر، داهمني فكرٌ خطير، سيطر عليّ طوالَ الوقت. ومن ثمَّ دفعني إلى الذهاب بنفسي إلى رؤساء الدين لكي أعرضَ عليهم مساعدتي. ولما لا؟ فأنا من الناس المقرَّبين له. عندها مضيتُ وتكلمت معهم واتفقت مع قواد الجند كيف أسلِّمه. لقد خيَّب ظني فيه، وكل آمالي التي بنيتها عليه قد صارت في مهب الريح. والسلطان الذي منحني إياه يوم دعاني لم يعد يُجدي نفعاً إن كان هو نفسه سيمضي إلى الموت. وهناك في الغرفة المغلقة عرض عليَّ رؤساء الكهنة ثلاثين من الفضة إزاء تسليمي له. ووضعنا معاً الخطة، وكنت أنتظر الفرصةَ السانحة لإتمامها. وفي ليلة الفصح، وبينما نحن جميعاً مجتمعون نتناول العشاءَ، تكلم المعلم بكلمات غريبة عن الخبز والخمر والعهد الجديد. لم أفقهْ كنهَ كلامه قط، بل راحت أفكارٌ رهيبةٌ تطاردني، وأحسست أنني أكادُ أختنق. وسمعته يقول: "الحق أقول لكم إن واحدا منكم يسلمني... الذي يغمس يده معي في الصحفة هو يسلمني... ولكن ويل لذلك الرجل الذي به يسلم ابن الإنسان. كان خيراً لذلك الرجل لو لم يولد..." للحال أدركت أنه قصدني أنا من بين الجميع. فازددت للحال غيظاً منه وحقداً عليه. وسألته لكي أتحقق منه ففاجأني بجوابه: أنت قلت. وقمت للحال من هناك متحفّزاً لإنجاز قصدي وتتميم خطتي (متى 26).
وفي تلك الليلة بالذات التقيتُ بجمع كثير من عند رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ، وأطلعتهم على تفاصيل خطتي. وللوقت حملْنا المشاعل وخرجنا تحتَ جُنح الظلام إلى البستان في جثسيماني حيث كان المعلم مع الأحدَ عشر. وأقبلْنا عليهم بالعصي والسيوف. وإثرَ وصولنا للحال ركضتُ إليه قائلاً: يا سيدي يا سيدي، وقبّلته حسب الاتفاق. فأجاب يسوع وقال لي:
"يَا يَهُوذَا، أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ابْنَ الإِنْسَانِ؟" ثم قال أيضاً: "كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ لِتَأْخُذُونِي!" (مرقس 48:14). فألقوا أيديهم عليه وأمسكوه. ومضوا به إلى رئيس الكهنة. وبعد التشاور أوثقوه وأسلموه إلى الوالي بيلاطس لإدانته وإصدار الحكم فيه. وأخيراً صدر الحكمُ بالموت صلباً على المعلم والسيد يسوع المسيح.
ظننتُ أنني انتهيتُ منه في تلك الليلة. لكنَّ أجفاني لم تعرف النومَ البتة، وغمرَني حزنٌ عميق لا قرارَ له. وانتابني تأنيبٌ للضمير لم أعهدْه من قبل في حياتي. ورحتُ أبكي كالطفل الصغير، وعدتُ إلى نفسي وأدركتُ فعلتي الشنعاء هذه التي فعلتها إذ سلَّمتُ دماً بريئاً وتذكرت كلماته عن الحملان والذئاب، فاشمأززت من نفسي لأنني أصبحت أنا هذا الذئب اللعين. وللحال أخذتُ فضتي وأرجعتها لرؤساء الدين. وإثرَ عودتي، ارتميت على فراشي أصارعُ أفكاراً سوداوية غزت رأسي، ورحت أرتجف وأنا أقاومها. ولمَّا خرتُ من كثرةِ الصراع، أمسكَ اليأسُ بتلابيبي فصرتُ أتعذّب وأنا في قبضته. وشعرت أنّني أختنق وصرت أتمنى الموتَ للخلاص من عذابيَ المرير وألم الضمير. وصرختُ بأعلى صوتي وقلت: أين المناص؟ أين الخلاص؟ واقتربَ مني شبحٌ أسود وبدأ يصارعني، فوقعتُ على الأرض وخرجتْ أحشائي مني. وتناهتْ إلى مسامعي صوتُ قهقهاتٍ مرعبةٍ وكلماتٍ مفزعة ظلَّت تلاحقني بينما كنتُ أهوي إلى هوةٍ سحيقة لا قرارَ لها، وهي تردد: سارق... وخائن... عبثاً حاولتُ إخمادَها.
             يهوذا الاسخريوطي          
 
وهكذا، يا قارئي الكريم،  قضى يهوذا ضحيةً لأطماعه وأهوائه وشهواته التي كانت تتأجَّج كنارٍ في صدره. وسار في طريقِ الشيطان، طريق الانحدار والاختلاس والخيانة، طريق الشر والشرير الذي  انزلقَ فيه شيئاً فشيئاً إلى أنْ وصلَ به إلى الدَّرك الأسفل. أما يسوعُ المسيح، المعلم الصالح والأمين، فلم يشأ أن يخسرَ مَنْ دعاه منذ البدء، ولهذا منحه فرصة تلوَ الأخرى عساه يتوب ويرجع. لكنَّه لم يفعلْ، بل تبعَ يهوذا غيَّه فوصل به المطاف إلى حبائل اليأس المرير. يا حبَّذا لو يفحص كلٌّ منا نفسه فنتَّعظَ مما كُتبَ ودُوِّن في كلمة الله، ونتنبَّه حتى لا نكونَ أو يكونَ بيننا يهوذا إسخريوطي آخر، طمَّاع وجشعٌ، يحب المال ويختلسُه، ويبيع حياته كلَّها من أجل حَفنةٍ منه، أو مركزٍ يغريه، أو سلطةٍ يبتغيها. ما أحرانا أن ننتبه إلى دعوة الله المقدسة لحياتنا، فنتبعه بالسر كما في العلن، ولا نعيشُ حياةً مزدوجة سرعانَ ما تُكتشف من قِبَل نور الله الساطع الذي يخرقُ أعماقَ الإنسان ويُظهِرُ كلَّ واحدٍ على حقيقته. فلنتعظْ ما دام الوقتُ نهاراً، ولْنعُدْ ونتُبْ عن أيِّ طريق خاطئ اتبعناه حتى لا يؤدي بنا إلى يأسٍ قاتل، فنشترك بالتالي نحن أيضاً في تسليمِ يسوعَ المسيح مرةً أخرى.

المجموعة: 200904

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

105 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10575883