نيسان (إبريل) 2009
معظم المقالات التي تدور حول قيامة المسيح احتفلت بالكتابة عن معنى القيامة، وعن اللص التائب، وعن آلام المسيح، وعن سمعان القيرواني الذي شارك في حمل الصليب، وغيرها من التأملات المتعلّقة بهذه الحادثة التاريخية، بل أعظم حادثة في التاريخ لأنها لا تقتصر على صلب إنسان عادي، بل عن صلب المسيح الذي في موته وقيامته حقق خلاص الجنس البشري من الهلاك الأبدي.
ولكن قلة هي المقالات التي كُتبت عن اللص الرافض الذي أخذ يتحدّى المسيح حتى في موته على الصليب. يتّضح لنا من الوثيقة الكتابية أن هذا اللص قد ارتكب من الجرائم ما أوجب القضاء الروماني على الحكم عليه بمثل هذه الميتة الشنيعة. ومع كل ذلك، وحتى في لحظات حياته الأخيرة لم يعترف بإثمه كما فعل رفيقه اللص التائب الذي قال له الرب يسوع المسيح:
"الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ". ولم يصدر هذا الوعد عن المسيح لأنه وجد في هذا اللص برّاً، ولكن لأن هذا اللص قد أدرك في لحظاته الأخيرة أن هذا المصلوب إلى جواره ليس إنساناً أو حتى نبياً من الأنبياء، بل هو الرب فادي البشرية. فبينما كان رفيقه يعيّر المسيح، انتهره هذا اللص التائب قائلاً: "أَوَلاَ أَنْتَ تَخَافُ اللهَ، إِذْ أَنْتَ تَحْتَ هذَا الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟ أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْل، لأَنَّنَا نَنَالُ اسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا، وَأَمَّا هذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ" (لوقا 40:23-41). وأكثر من ذلك، فإن هذا اللص إذ التفت إلى المسيح بعد انتهاره لرفيقه قال ليسوع: "اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ" (ع42)، على نقيض ما كان عليه موقف اللص الرافض. ورد في النص الكتابي: "وَكَانَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُذْنِبَيْنِ الْمُعَلَّقَيْنِ يُجَدِّفُ عَلَيْهِ قَائِلاً: إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ، فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا!" (ع39).
ونريد في هذه الصفحات القليلة أن نتأمّل في موقف اللص الرافض لأنه في تجديفه وتعييره للمسيح يمثل طائفة كبيرة من الناس في عصرنا الحاضر ولا سيما أولئك الذين يحاولون أن يلوّثوا حياة المسيح إن في مؤلفاتهم، أو إخراجهم السينمائي، أو مسرحياتهم، ساخرين بحياته وتعاليمه وحتى بموته وقيامته.
نلاحظ في هذه الحادثة أن اللص الرافض كان قريباً جداً من المسيح، فقد صُلب إلى جواره وشاهد بأم عينيه ما تعرّض له المسيح من عذاب وآلام واضطهاد. سمع إلى صوته، وأصغى إلى صدى أنّاته، وتناهت إليه صرخات الجماهير التي كانت تندّد بالمسيح. ومن الغريب هنا أن تلك الجماهير التي هتفت منذ أسبوع قائلة: "أوصنّا. مبارك الآتي باسم الرب"، واحتفلت بدخول المسيح إلى أورشليم قد تحوّلت إلى وحوشٍ ضارية تودّ لو تلغ بدمائه الطاهرة. هذه الجماهير لم يصدر عنها ما ينبئ بغضبها أو ثورتها على جرائم اللصّ. ومن الجليّ أن هذا اللصّ لم يُتّهم بالسرقات فقط وإلا لما حُكم عليه بالصلب، إنما على الأرجح أنه اقترف جرائم قتل. ومع كل ذلك، فإن المسيح وحده كان عرضة للسخرية والاستهزاء. يقول الكتاب: "وَكَانَ الشَّعْبُ وَاقِفِينَ يَنْظُرُونَ، وَالرُّؤَسَاءُ أَيْضًا مَعَهُمْ يَسْخَرُونَ بِهِ قَائِلِينَ: خَلَّصَ آخَرِينَ، فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَهُ إِنْ كَانَ هُوَ الْمَسِيحَ مُخْتَارَ اللهِ! وَالْجُنْدُ أَيْضًا اسْتَهْزَأُوا بِهِ..". ولم يكن موقف اللصّ الرافض يختلف عن موقف تلك الجماهير، فقد استخدم تقريباً نفس عباراتهم. وهكذا تألّبت قوى الشر في ذلك اليوم على شخص المسيح البار.
وعلى نقيض اللص التائب، أبى اللص الرافض أن يعترف بخطاياه، وأن الحكم عليه بالموت صلباً هو حقّ وعدل. فقد أقرّ بذلك رفيقه عندما انتهره قائلاً: "أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْل، لأَنَّنَا نَنَالُ اسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا". هذه الحقيقة لم تغب عن ذهن اللص، ولكنه رفض الإقرار بها وكأنما بذلك كان يتهم السلطات بالتجنّي عليه، وأنه كان مظلوماً. وماذا كان مطلبه من المسيح؟ "إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ، فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا!". أجل، لقد كان المصلوب إلى جواره هو المسيح، ولكن هذا المسيح لم يأتِ إلى العالم لكي يتهرّب من تحمّل مسؤولية خلاص البشرية. كانت مطالب اللص أنانية ذاتية وآنية مع أنه يعلم حق العلم أنه لا يستحق النجاة. ويا ليته اعترف بالمسيح ملكاً ومخلّصاً لنال الصفح والغفران من فادي البشرية. ولكن هذا الموقف المتحدّي الذي لا ينمّ عن التوبة لم يؤثّر بالمسيح، كما أن الكتاب المقدس لم يسجّل لنا ردّ المسيح عليه، لأنه أدرك أن هذا اللص كان يسعى وراء الخلاص المؤقت من الموت والصلب، وليس النجاة من الهلاك الأبدي.
والغريب في الأمر أن هذا اللص كان يجدّف على المسيح لا لذنب اقترفه. والحقيقة أننا لا نعرف لماذا كان يجدّف على المسيح. وفي مكان آخر يقول "كان يعيّره!". فما هي الدواعي التي حفّزته على عداء المسيح والتجديف؟ وكيف يمكن للمجدّف أن يطلب النجاة من الموت على يد من جدّف عليه من غير توبة واعتذار كما فعل اللص التائب؟ لقد عميت عيناه عن حقيقة المسيح مع أنه قد سمع جواب المسيح لرفيقه اللص، ولكن قساوة القلب البشري الذي لا يريد أن يتوب كلفته ليس الموت الجسدي بل العذاب الأبدي.
إن موقف هذا اللص الرافض من المسيح ليس فريداً في نوعه، ففي العصور السوالف كما هو الحال في أجيالنا المعاصرة هناك من يتمثّلون بهذا اللص. يسخرون بالمسيح، ويستهزئون به لأن أذهانهم قد أصابها الشلل الروحي، وقلوبهم قد امتلأت فساداً. ينكرون معنى فداء المسيح، ويستنكرون كل حديث عنه لأنهم يرفضون الاعتراف بخطاياهم. بل أكثر من ذلك، أضحى الصليب عثرة لهم. هم غارقون في مستنقعات الخطيئة يرسفون في أغلال عبودية إبليس، ولكنهم يظنون أنهم أحرار، تقدّميون، حكماء، أذكياء، أما كل الذين يؤمنون بالمسيح فهم جهال، متعصبون أغبياء.
إن اللص الرافض لم يتأمّل في آخرته الأبدية، ولم يسعَ لخلاص نفسه. كان المسيح قريباً منه جداً، يتألم كما تألّم هو، وذاق كؤوس العذاب مثله، ولكن المسيح حمل خطيئة العالم على كتفيه لكي يرضي عدالة الله ويعقد ميثاق المصالحة مع الآب السماوي. كان في إمكان اللص الرافض أن يحتذي رفيقه ويطلب الغفران فتكون له الحياة الأبدية. صحيح أن المسيح لم ينقذه من العقاب الجسدي الذي يستحقه ولكن أمّن له الحياة التي لا يتسرّب إليها الفناء، ويعجز الموت عن الوصول إليها. وفي لحظات قصار اجتمع مع فاديه في جنات الخلود، في الفردوس الموعود الذي وعده به المسيح.
ولست أُدهش إن علمت أن اللص التائب عندما فتح عينيه في الأبدية وتطلّع إلى الهاوية رأى رفيقه يصطلي بنيران الجحيم، بل إنني لأرى الدهشة ترتسم على محيّا اللص الرافض عندما شاهد زميله في اللصوصية والقتل يرفل في نعيم الخلود في صحبة فاديه الذي جدّف هو عليه.
يا قارئي العزيز، إن لم تكن قد اختبرت نعمة الخلاص، فاطلبها الآن ولا تكن كاللص الرافض لأن الوقت قصير، والأيام شريرة، وروح الله لا يدين في الإنسان إلى الأبد.