آب (أغسطس) 2009
- الزيارات: 4362
"إذا لم نستطعْ نحنُ الاثنان التواصلَ بكلامنا والتعبيرَ بنجاحٍ عن أفكارنا لبعضنا بعضاً، فمعناه أنَّه لا يوجد بعدُ أيُّ أمل في التواصلِ المفلِح لعالمنا." هذا ما نطق به خطيبان لأصدقائهما يوماً بينما كانا بعدُ يدرسان معاً علم التواصل Communication في الجامعة. وطبعاً كانا يقولانِ ذلك بروح النُّكتة والدَّعابة. وعندما قرأتُ أنا هذه الطُّرفة، والتي هي جزءٌ من مقالٍ إلكتروني بعثَ به إليَّ أحدُ الزملاء، تذكَّرتُ كيف أنَّنا جميعاً نمرُّ بقصصٍ يومية وحوادثَ تحصل معنا، فيها من سوءِ الفهم الكثير. وليس هذا فحسب، بل تتطوَّر الأمورُ في بعض الأحيان إلى تأويلاتٍ أو تحليلاتٍ لم تخطرْ قطُّ على بال ولم تكن في الحِسبان وربَّما تؤدي في بعض المرات إلى انقطاع التواصل بالكليَّة.
حقاً، لَكََم يقع الواحد منا في سوء الفهم هذا، ولَكَم يخطئُ عندما يظن أنَّ هذا هو ما سمِعه أو هذا هو عينُ ما فهمَه من الآخر. وليس من فردٍ معصومٍ عن الوقوع في مثل هذه "المطبَّات" الكلامية أثناءَ التواصل والتعبير عن أفكاره في علاقاته مع الآخرين. وعليه فلقد لفتَ نظري ما وصلني يوماً بالبريد الإلكتروني من (Paul Semmenchuk) وهو أحدُ الزملاء القدامى العاملين معنا في الحقل الإذاعي، الذي كتب عن هذا الموضوع بالذات فقال: حتى أفضلُ الناس في فنِّ التواصل والتعبير هم أيضاً معرَّضون إلى سوء الفهم. وليس هذا فحسب بل إن اللهَ نفسَه الذي هو أعظمُ وأكبرُ وأجدرُ المتواصلين مع بني البشر قد أساء الناس فهمه. وعليه فليس من المستغرَب أن تكون كلماتي أنا، وكذا نواياي، هي الأخرى معرَّضة إلى سوء الفهم وحتى التأويل الخاطئ. ولماذا هذه المشكلة؟ إنَّها مشكلة الإنسان والإنسان وحده بدون شك. فنحن مجبولون بالخطأ، والعيوب، والتعقيدات. وهناك الكثير من المعوِّقات والحواجز التي تواجهنا ونحن نسير على درب التواصل والتفاهم في هذه الحياة.
وتساءلَ ”بول“ كاتب المقال عن بعض التحدِّيات التي تواجه كلاًّ منا فقال:
أولاً:
إنَّه ما من مخلوقٍ على هذه البسيطة مثل الآخر، ولا أحدَ منَّا يفكر كالآخر، ولهذا فإنَّه ليس من اثنين يعبِّران عن أنفسهما بالطريقة ذاتها. فلكلٍّ منا لغته الخاصة به. وبطريقةٍ ما، علينا أن نسعى لكي نربط بين هذه الاختلافات لكي يكون تواصلُنا ناجحاً ومفهوماً.
ثانياً:
لا نعرف دائماً أن نعبِّر عن أنفسنا بوضوح، بعقلانية، وبشكلٍ منطقي. فلا عجبَ إن كان الناس لا يفهمون أحياناً ما أقوله، فأنا أيضاً لا أفهم نفسي في بعض المرات!
ثالثاً:
لسنا دائماً شفَّافين في كلامنا، أو واضحين، أو مباشَرين في تعابيرنا. فالخداع الذي هو جزءٌ من طبيعتنا البشرية قد لوَّث طريقةَ تواصُلنا معاً. ولهذا يسيء فهمَنا الناس، أو يتحيَّرون ماذا نقصد في كلامنا.
رابعاً:
وبدلَ أن نسأل الشخصَ ليفسِّر لنا ماذا يعني بكلامه، نجد أنفسَنا نحلِّلُ أقوالَهُ، وعندها سرعان ما نصل إلى نتيجةٍ خاطئة.
خامساً:
نحن لسنا أناساً متحجّرين، كلآّ، لأنَّنا نتغيَّر دائماً. فأنا مثلا (يقول الكاتب) لستُ الشخصَ نفسَه الذي تزوجَتْه زوجتي (بيتي) منذُ خمسين عاماً ونيِّف! فأفكارُنا وَوُجُهاتُ نظرِنا، وعقائدُنا ومواقفُنا من الأمور، هي أيضاً خاضعة للتغيير المستمر. لهذا يجب علينا ألاَّ نفترضَ افتراضاتٍ عندما نتكلَّم مع الآخرين.
سادساً:
إنَّ مرادفاتِ كلماتِنا ربَّما هي ناقصةٌ وغيرُ وافية. الكلماتُ وما تعنيه، هي بركةٌ مُلْتَبسة. فلكلٍّ تعريفُه الخاص للكلمات. كما أنَّ وعيَنا وإدراكَنا للكلمات يختلف من شخصٍ إلى آخر. فهل نحن يا تُرى نتكلم عن الشيء ذاتِه أم عن شيء آخر؟
سابعاً:
عندما نجرِّب أن نتواصلَ من خلال شخصٍ ثالث، أو مترجم، أو ممثِّل عنا، فهذا أيضا تحدٍّ هائل إذ ينبغي ألاَّ نتعجب من كمية الخسارة الناتجة عن الترجمة. وحتى المترجمون الموثوق بهم، الذين يعرفون لغةً أجنبية أخرى معرفةً لا بأسَ بها، نراهم يقعون أحياناً، ويوقِعونَكَ أنتَ أيضاً معهم، في مشاكلَ عويصة وخطيرة.
ثامناً:
إنَّ الكلمات من الناحية اللغوية ودلالاتِ الألفاظ، هي غالباً غيرُ وافية. فهناك شيءٌ أهم ألا وهو لغةُ القلب، ولغةُ النفس والوجدان، ولغةُ الثقافات، هذه كلهاُّ تُعتبر أكثرَ أهميةً من اللغة المحكيَّة، أو تلكَ المكتوبة. وأضفْ إلى ذلك، فلكلِّ ثقافةٍ منطِقُها الخاص بها. ونتيجةً لذلك فإنَّنا نفسِّر أو نبرِّر بشكل مغاير عن لبعضِنا البعض.
تاسعاً:
هناكَ أيضاً حركاتُ الجسد المرافِقة، هي أيضاً لديها لغتُها الخاصة بها. فالشكرَ نقدِّم لسُيَماءِ وجوهِنا المهذَّبة، لأنَّ لغةَ أجسادنا يمكنها أن تناقضَ تماماً ما تفوهُ به شفاهُنا.
وعاشراً وأخيراً:
سلوكُنا هو أهمُّ جداً من كلِّ كلام. فتصرفاتنا وردَّات أفعالنا تتكلَّم بشكلٍ أقوى وأعلى. وإنَّ أكثرَ طريقة مقنعة في التواصل هي تلكَ التي تُشرِك السلوك، وليسَ الحديث.
ويتابع بول ليقول: أخي وأختي، أنتما سعيدا الحظ لو اعتبرَكما الناس أصدقاءهم. فالصديق يوثَقُ به، ويُصدَّق، بغضِّ النظر عمَّا إذا فُهِم كلامُه أو لم يُفهم. وعليه، اسعَيا لكي تكونا صديقَيْن حقيقيين ولن تقلقا بعدُ إذا ما حدثَ وأُُسيءَ فهمُكما. لكنْ جرِّبا أن تكونا صديقيْن من دونِ أيَّةِ شروطٍ مسبقة. أعطِيا بكل سخاء من أنفسكما دون أن تتوقَّعا شيئاً في المقابل. فالتواصلُ الجيِّد يتضمَّن القُبول، وليس بالضرورةِ الموافَقة. فهل تعرفَا كيف تتكلَّمانِ لغةَ القبول، والنعمة، والحنان والرأفة؟ نستطيع أن نتعلَّم جميعاً من الله.
هل يسيءُ الناس فهمَك يا قارئي؟ الناس الذين ترغب في الوصول إليهم؟ إنَّ محبَتك، ونكرانَ ذاتِك، لا يمكن أن يُساءَ فهمُهما. أعمالُك اللطيفة والخيِّرة من غير المعقول أن تُزالَ أو تُتجاهَل. وحتَّى لو رفضَكَ الناس، فإنَّ دوافعَكَ الطيبة وأفضالكَ الجيدة، لا يمكن أن تذهبَ هباءً منثوراً، أو تكونَ باطلة أمام الله. وحياتُكَ التقيَّة ستبقى شهادةً يستخدمُها الرب، ولا بدَّ له من أن يعوِّض عليك عنها إنْ لم يكن عاجلاً فآجلاً.
والآن، هل تعلم صديقي لماذا يُعتبر الله أعظمَ متواصلٍ أو ناقلٍ لفكره؟ لأنَّه لا يتكلَّم فحسب، بل يفعل. لا يقول فقط، بل يعطي ويمنح. هو بذلَ نفسه. لم يهبْنا من نفسه، بل وهبَنا ذاته. وعليه فأنتَ يا أخي وأنتِ يا أختي، موصِلانِ عظيمان أيضاَ، ليس بسبب ما تقولانه، بل بسبب مَن أنتما وما تفعلانه.
ربما لستما أنتما المشكلة في عدم التواصل الصحيح. لأنَّ الآخرين أيضاً لهم حصَّتُهم الكبيرة من الخلفية، والثقافة، والنفسية، والحالة العاطفية التي يحملونها معهم كذلك إلى هذه العلاقة. نعم، يجلِبون معهم ثقلَ سيارة نقلٍ محمَّلة بالمفاهيم المسبقة، ونزعة التحيُّز، والتحامُل على الغير، والتمييز بين الأفراد. ولهذا، فإنَّه من الأسهل على الآخرين أن يفهموك يا قارئي بواسطة الطريقة التي تعاملُهم بها، وليس بواسطة الكلام الذي تقوله لهم. ولكن، حتى لو قمتَ بكل ما في وسعك فعلُه تجاهَهم، سيظلُّ هناك أناس يسيئون فهمك، ويفسّرون أفعالك بشكل خاطئ. لكن، لا عليك، فاللهُ نفسُه أُسيء فهمُه أيضاً يا عزيزي!
وأضيف هنا فأقول:
ألم يتواصلِ الله مع بني البشر الخطاة بواسطة كلمته الذي هو تعبير عن ذاته؟ وحتى الآن لا يزال العالم يسيء فهم "الكلمة الذي صار جسداً وحلَّ بيننا". لهذا سجل الوحي المقدس هذه الكلمات على لسان البشير يوحنا والفصل الأول منه ما يلي: "إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ. وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ." فهل تؤمن وتصدق الكلمة المتجسد، المخلص والفادي الرب يسوع المسيح؟ وتقبلُه بالإيمان فتصير من أبناء الله الحقيقيين؟