شباط (فبراير) 2009
تُشبِّه كلمة الله الإنسان بتشبيهات كثيرة، من بينها أن الإنسان يشبه الإناء. وفي كلمة الله نجد أنواعاً مختلفة من الأواني: يقول المرنم في مزمور 12:31 “صِرْتُ مِثْلَ إِنَاءٍ مُتْلَفٍ”. مقابل هذا الإناء المتلف يحدثنا بولس الرسول عن إناء للكرامة في 2تيموثاوس 20:2.
وفي سفر الملوك الثاني نجد مقابلة بين نوعين من الأواني:
في 3:4 يقول: “أوعية فارغة”، وفي عدد 6 يقول: “امتلأت الأوعية”.
وهذه الأواني الأربعة تمثّل أربعة أنواع من الناس.
إناء مُتْلَف
إنه يمثل كل إنسان قبل أن يتعرّف على المسيح. إنه إناء مُتْلَف بعد أن سقط آدم وحواء. كلنا يعرف أن الله خلقنا على صورته لنكون آنية للكرامة نحمل صفاته وصورته العظيمة المجيدة، ولكن، لما سقط الإنسان شوّهته الخطية.
يصف لنا مزمور 31 بعض صفات الإناء المتلف فيقول: "اِرْحَمْنِي يَا رَبُّ لأَنِّي فِي ضِيْق". الإنسان في ضيق بسبب السقوط. ثم أصبح في غمّ "خَسَفَتْ مِنَ الْغَمِّ عَيْنِي"، وعينه مغلقة لا ترى. ثم يقول: "لأَنَّ حَيَاتِي قَدْ فَنِيَتْ". فالخطية أدخلت الفناء والموت والحزن. ثم يقول: "لأَنَّ حَيَاتِي قَدْ فَنِيَتْ بِالْحُزْنِ، وَسِنِينِي بِالتَّنَهُّدِ. ضَعُفَتْ بِشَقَاوَتِي قُوَّتِي، وَبَلِيَتْ عِظَامِي. عِنْدَ كُلِّ أَعْدَائِي صِرْتُ عَارًا، وَعِنْدَ جِيرَانِي بِالْكُلِّيَّةِ، وَرُعْبًا لِمَعَارِفِي. الَّذِينَ رَأَوْنِي خَارِجًا هَرَبُوا عَنِّي. نُسِيتُ مِنَ الْقَلْبِ مِثْلَ الْمَيْتِ". جعلته الخطية يعيش في عزلة، فلا أحد يذكره أو يحبه، لأن الخاطئ لا يحبّ خاطئاً. فلو راجعنا هذه الأوصاف التي يذكرها داود عن حياته كإناء متلف، نجدها تصف كل إنسان بعد سقوطه في الخطية: فهو في ضيق، وحزن، وعزلة، وضياع، وفراغ.. يخيف الآخرين ويخاف من الآخرين، يكره الآخرين، ويكرهه الآخرون.
ألم يقل هذا قايين بعد أن قتل أخاه هابيل: "فَيَكُونُ كُلُّ مَنْ وَجَدَنِي يَقْتُلُنِي"، مع أن العالم كان خالياً من الناس في ذلك الوقت؟ لم يكن به إلا قايين وأبواه، لكن قايين تصوّر أن العالم امتلأ من الأعداء، وأن كل من يراه سيقتله. الخطية تولّد في حياتنا خوفاً من الله، لأننا نراه ديّاناً يريد أن يقبض علينا ويديننا، ويلقي بنا في نار جهنم، فنعيش في خوف من الآخرين ومن أنفسنا. نخاف من الماضي، والحاضر، والمستقبل. نخاف من المرض، ومن الحالة الاجتماعية والأزمة الاقتصادية. نعيش في خوف من كل شيء ومن كل شخص، ونتخيّل مخاوف لا وجود لها، فنعيش في عزلة وحزن وتنهّد.
وهذا الإناء المتلف قد يصوّر نوعاً آخر من الناس، إلى جانب تصويره لكل إنسان بعد سقوطه في الخطية. قد يصوّر إنساناً عرف المسيح، ولكن لسبب من الأسباب ارتدّ عن الإيمان، أو توقّف عن الخدمة، فصار إناء متلفاً، تَلُفَت خدمته وتوقّفت شهادته، ربما بسبب غرور دخل قلبه، فظنّ أنه إن كان قد نال نجاحاً في الخدمة، فإن هذا يرجع إلى فضله أو إلى عقله، أو حكمته، أو قدرته. أو تصوّر أنه في خدمته ينبغي أن يمجّد نفسه فسعى إلى مجد نفسه بدل مجد سيده. لعلّه رفع ذاته قبل أن يرفع إلهه، أو لعلّه عاش في خطية مستورة عن الآخرين، لكنه يعرفها في قرارة نفسه، والله يعرفها يقيناً.
مثل هذا الإنسان يمكن أن يُصوَّر كإناء مُتلف. كان إناء نافعاً في يد السيد يقدّم ماء يروي الآخرين، لكنه تلف وتوقّفت خدمته وشهادته وذهب عنه اللمعان.
مثل هذا الإنسان ينبغي أن يذكر من أين سقط، ويدرك سر تلفه. إن الإنسان الذي عرف المسيح لا يمكن أن يهلك أو يفقد خلاصه، لكنه يمكن أن يفقد بهجة خلاصه، ويفقد شهادته وخدمته. نعم، إن الله سيردّه بضربات وآلام.
تُرى، ماذا يقدّم الله للإناء المُتلف؟
يقدّم الله لهذا الإنسان دعوة أن يرجع إلى الفخاري ليعيد صنع الإناء. إنها دعوة لكل إنسان يحسّ اليوم أن حياته تشبه إناء مُتلفاً، وروح الله على استعداد أن يعيد صنع الإناء ليكون صالحاً نافعاً للسيد.
لأجل هذا جاء المسيح ليأخذ الأوعية التالفة ويُعيد خلقها خليقة جديدة.
لقد فقدنا كرامتنا، وطهارتنا، وشركتنا مع الله، وسلامنا، وكل ما كان لنا من حق وبركة في الخليقة الأولى، لأننا سقطنا في آدم، وجاء الرب يسوع المسيح لكي يخلقنا من جديد ويعيد صنع هذا الوعاء. لأجل هذا قال: "يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ". إنه لا يصلح الوعاء فيجبره، أو يضمّ أجزاءه المكسورة بعضها إلى بعض، لكنه يخلق وعاء جديداً بأن يلدنا ميلاداً جديداً فنصبح خليقة جديدة. إنه لا يصنع خمراً جديدة في وعاء قديم، لئلا يفسد هذا الوعاء، لكنه يعيد صنع الوعاء. إنه على استعداد أن يخلقك خليقة جديدة، ويحررك من الخطية، ويعطيك شركة جديدة مع الله، إن أنت جئت إليه.
أما إن كنت وعاء مُتلفاً، لأنك بعد أن عرفت المسيح واختبرته وخدمته، تعثّرت وارتددت وسقطت، فالدعوة موجّهة أيضاً إليك لكي تعود إليه ثانية. فهو يشفي ارتدادك، ويعطيك قوة جديدة، ويمحو كغيم ذنوبك وكسحابة خطيتك، ويزيل كل ما يمكن أن يكون سبباً لتعطيل خدمتك.
إناء للكرامة
ما هي بعض صفات إناء الكرامة؟
وأية كرامة لهذا الإناء؟
إنه يصوّر إنساناً في يد المسيح، عرف المسيح ويعيش له. لقد أُعطينا هذا الكنز في أوانٍ خزفية. نحن أواني خزفية في ذواتنا، فأين لنا الكرامة؟
الكرامة لنا، لا لأننا نستحقها في ذواتنا، لكن لأنه اختارنا من قبل تأسيس العالم. أحبنا فضلاً. أية كرامة أعظم من هذه، أن تعرف أن الله من قبل أن توجد وتولد، ومن قبل أن يوجد هذا العالم قد اختارك في المسيح؟ أليست هذه كرامة لا تفوقها كرامة؟ لذلك لم يكن المسيح مبالغاً حين قال: “لستم من العالم”، حين طالبنا أن لا نعيش كأهل العالم - مع كوننا في العالم - لأنه اختارنا قبل تأسيس العالم ككنيسة. نحن نسبق هذا العالم تاريخياً، لذا فينبغي أن نسبق العالم ونرتقي عليه روحياً.
ثم إن كرامتنا تأتي من أنه يُعيد الشركة بيننا وبينه، ويعيد لنا الصورة الأصلية التي شوّهتها الخطية، ويجعلنا مثل الله، ويعطينا الطبيعة الإلهية في هذه الحياة. وسيأتي يوم فيه نرى المسيح كما هو، ونصير مثله.
أية كرامة أعظم من هذه الكرامة؟ إننا صرنا شركاء الطبيعة الإلهية. صرنا أبناء الله وسنصير مثل الله.
وتأتي الكرامة من أنه يستخدمنا في مجده. أية كرامة أعظم من أن نعرف أن الله يتنازل ويستخدم هذه الآنية الخزفية لمجده، لكي يوصّل بها ماء الحياة للآخرين؟ هذه كرامة لا تُستمَدّ من الإناء نفسه، لكن من الله الذي يجعلنا مثله، شركاء طبيعته.
وإناء الكرامة هذا ينبغي أن يكون نقياً.
إن جاءك متسول يطلب ماء، لست أظن أنك تعطيه ماء في وعاء متّسخ. فإن كنت لا تعطي المتسوّل ماء في إناء قذر، هل يليق أن نعطي أنفسنا لله آنية غير نقيّة؟ يجب أن نختلف عن هذا العالم. إنه يطالبنا أن نكون نوراً للعالم وملحاً للأرض، وأن نكون مؤثرين في العالم غير متأثرين بشره.
ولعل الفرق بين النور والملح أن النور يُرى واضحاً وجلياً، أما الملح فلا يُرى. إنه يؤثر بغير أن يُرى لأنه تغلغل داخل الطعام وذاب فيه، هكذا يريدنا الله أن نكون في هذه الحياة. يريد لنا تأثيراً ظاهراً، إذ يرى الناس أعمالنا الحسنة ويمجدون أبانا الذي في السموات، كما كان بولس وسيلا يصليان ويسبحان الله في سجن فيلبي في منتصف الليل والمسجونون يسمعونهما. وهذه حقيقة في حياة كل مؤمن في هذا السجن الكبير، هذا العالم الذي وُضع في الشرير، والذي فيه سَجَنَ رئيس سلطان الهواء الخطاة. لا بد أن يسمعوك. هناك من يلاحظون حياتك. نحن عيِّنات يقدمها الله لهذا العالم، لكي يدعو الناس إليه؛ فهل هذه العيّنة التي وضعها الله في هذا العالم تأتي بالناس إليه، أم أنها تنفّرهم منه؟
وينبغي أن يكون تأثيرنا مختفياً كالملح؛ الملح الذي يؤثر دون أن تراه.
ولكي يؤثر الملح لا بد أن يختفي ويذوب ولا يُرى. إن بَقِيَت كتلة ملح بعيدة عن الطعام فإنها لا تعطي طعماً للطعام. وإن أردنا أن نؤثر في العالم، ينبغي أن نكون على استعداد أن نختفي نحن، ونقول قولة يوحنا المعمدان: ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص.
وينبغي أن تكون آنية الكرامة نقية، وأن تكون ذات اتساع.
في الحدث الذي وقع للمرأة التي التجأت إلى أليشع كما هو مكتوب في 2ملوك4، قال لها أليشع: لكي تدفعي ما عليك للدائنين، ولكي لا يأخذوا ولديك رهينة عن الدّين، أحضري أوانٍ فارغة ولا تقللي، ثم صُبّي من دُهنة الزيت في هذه الأواني، وما امتلأ منها بيعي منه. ومن ثمن الزيت ادفعي ما عليك من دَين، وعيشي أنت وبنوك.
والجميل في هذه القصة أننا نقرأ القول: "فَذَهَبَتْ مِنْ عِنْدِهِ وَأَغْلَقَتِ الْبَابَ عَلَى نَفْسِهَا وَعَلَى بَنِيهَا. فَكَانُوا هُمْ يُقَدِّمُونَ لَهَا الأَوْعِيَةَ وَهِيَ تَصُبُّ. وَلَمَّا امْتَلأَتِ الأَوْعِيَةُ قَالَتْ لابْنِهَا: قَدِّمْ لِي أَيْضًا وِعَاءً. فَقَالَ لَهَا: لاَ يُوجَدُ بَعْدُ وِعَاءٌ. فَوَقَفَ الزَّيْتُ".
طالما وُجد وعاء فارغ، وُجد الزيت. وإن لم يوجد وعاء فارغ فالزيت سيتوقّف.
وهذا الإناء الذي للكرامة ينبغي أن يكون له اتساع. إن الله يريد أن يملأنا ويفيض علينا، والشيء الوحيد الذي يحدّ امتلاءنا هو أن أوعيتنا لا اتساع فيها. فدعونا نوسّعها ونفرّغها من العالم حتى يملأها الله.
من الوعاء الفارغ إلى الوعاء الملآن
في 2ملوك3:4 كانت الأوعية فارغة، وفي 2ملوك 6:4 الأوعية امتلأت.
علينا أن ننتقل من وعاء مُتلف إلى وعاء للكرامة. لكن لكي نكون الوعاء الذي يشرب منه السيد، كوعاء يوسف، ينبغي أن يكون ممتلئاً وليس فارغاً. هناك أوعية فارغة، وهناك أوعية ملآنة. ونرى هذه الصورة واضحة لو أننا رجعنا إلى يوم الخمسين. في الليلة التي سبقت ذلك اليوم، كان التلاميذ أوعية فارغة، وفي ليلة الخمسين كانوا أوعية ممتلئة. لم يتغيّر شيء من معرفتهم للمسيح. في الليلة السابقة كانوا قد عاشوا مع المسيح كل سنوات خدمته. رأوه معلماً وصانعاً للمعجزات ومصلوباً، وعرفوه مُقاماً. كل هذه الاختبارات هي هي في الليلة التي سبقت يوم الخمسين. وفي يوم الخمسين لم تختلف. ومع ذلك كانوا في الليلة السابقة ليوم الخمسين أوعية فارغة ثم أصبحوا أوعية ممتلئة. كانوا يعيشون في خوف، وإذا بهم يخرجون إلى العالم كله يكرزون بالإنجيل بغير خوف. كانوا مقيَّدين ففُكّت قيودهم، ووجدنا سمعان بطرس يتحرّر من عقدة لسانه ومن خوفه، وينادي جهراً: إنكم أنتم اليهود قد صلبتموه.
كان قبلاً خائفاً ينكر المسيح أمام جارية، فما الذي حدث؟ امتلأ الوعاء. لقد ملأ الله هذه الأوعية بروحه، وإذا باختباراتهم القديمة يصبح لها معنى جديداً، وإذا بما سمعوه من المسيح من قبل، يصبح له فاعلية جديدة. وإذا بالقلب يمتلئ يقيناً، والوجه يمتلئ بِشراًَ وفرحاً، والعقل يمتلئ حكمة ومعرفة. الأحداث هي هي، والاختبارات هي هي، وما سمعوه من المسيح لم يتغيّر. لكن روح الله أعطاهم فهماً جديداً وقوة جديدة وتأثيراً جديداً. وهذا ما تحتاجه الكنيسة اليوم.
إننا بحاجة لهذا الملء. حين آمنا بالمسيح أخذنا روح الله، وقد يكون اختبار يوم الخمسين مصاحباً لاختبار ميلادك الجديد، لكن إن لم يكن كذلك، اطلب أن يملأك الله بروحه، ويفيض عليك، فهو الذي قال في ذلك اليوم الأخير العظيم من العيد: “إن عطش أحد فليُقبل إليّ ويشرب”. قال هذا عن الروح القدس الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه.
راجع نفسك اليوم: أي وعاء أنت؟ إناء مُتلف؟! إن كنت لم تعرف المسيح بعد، فهي الآن ساعة لنستيقظ من النوم لتسمع صوت روح الله يقول: “اليوم يوم مقبول”.
وإن كنت قد عرفته، لكنك ضعيف خافِت الشهادة، فالدعوة لك أن تأتي إليه. وهو على استعداد أن يحوّل الإناء المُتلف إلى إناء للكرامة.
إن كنت تشعر بجفاف، وإن كانت آنيتك فارغة، ولا شيء عندك تقدمه لغيرك، فالتجئ إليه ليملأك بروحه ويفيض منك على الآخرين.