حزيران (يونيو) 2009
القس يعقوب عماري في سطور
وُلد في الأردن بتاريخ 1 يونيو 1934. تخرج من كلية اللاهوت في عام 1960 التابعة لكنيسة الناصري في بيروت. وفي نفس العام عُيّن راعياً للكنيسة في القدس. وفي عام 1962 عُيّن راعياً لكنيسة الكرك بجنوب الأردن، ثم عُيّن رئيساً للكنائس الناصرية في سوريا ولبنان والأردن من عام 1979 إلى 1992. وقد شاركه في هذه الخدمة المباركة زوجته وأولاده.
شارك القس عماري في تقديم عدة برامج إذاعية من خلال إذاعة حول العالم منها "محطات وعبر" من عام 1992 حتى 2004، وبرنامج ”هل تعرفه؟“ لثلاث سنوات الذي ركّز فيه على حقيقة هوية المسيح، ونُشر له العديد من المقالات على الإنترنت وجريدة الطريق والحق ومجلة صوت الكرازة بالإنجيل وغيرها. وقدّم العديد من العظات والمحاضرات في كنائس ومؤتمرات بالعربية والانكليزية في الشرق والغرب، ويقوم الآن بإعداد كتابه للطباعة عنوانه: "القول الصريح في مَن تُرى يكون المسيح"، وهو متابع جيد لموقع "الأقباط متحدون" ويشارك في التعليق على بعض المواد المنشورة بالموقع.
من أقوال القس يعقوب عماري:
± إذا افترضنا جدلاً أن صلب المسيح لم يحدث أبداً، فكيف انتهت إذاً حياتُه؟ ولماذا يغفلُ الوحي من ذكر ذلك بتفاصيله الدقيقة؟
± كما أنزل الله كبشاً من علياء سمائه ليفدي ولد إبراهيم، أنزل الله إلينا حملاً طاهراً نقياً كنقاوة الثلج وأكثر. في الحادثة مات الكبش وعاش إسحاق، وفي حدث الصليب مات المسيح وبموته نلنا الحياة.
± الرحمة والعدل صفتان لا يلتقيان في شخصٍ واحد، لكن في الصليب الرحمة والعدل التقيا، وفيه صارت الرحمة والغفران للمؤمنين التائبين الراجعين إلى الله.
± المسيحية بلا صليب كسماء بلا شمس.. بوصلة بلا إبرة.. ساعة بلا عقارب.. مصباح بلا زيت.. موسيقى بلا ألحان.. غيث بلا أمطار.. أو ككتاب بلا حروف. لا أبالغ لو قلت أن صليب المسيح هو فخر الكنيسة المسيحية منذ أن وُجدت وعبر كل عصورها!
قصة هذا الحوار:
بمناسبة ذكرى موت المسيح وقيامته جرى هذا الحوار مع القس يعقوب عماري حول قضية صلب المسيح. ودارت الأسئلة حول: مصدر عقيدة صلب المسيح؟ وماذا تمثّل في المسيحية؟ وهل يمكن أن يتخلى المسيحيون عنها؟ وكيف يرضى الله بتقديم المسيح على الصليب كتضحية بشرية لا حيوانية؟ وهل هناك علاقة بين صليب المسيح ومطالب عدل الله؟ وكيف يفتخر المسيحيون بصليب المسيح رغم كونه أداة للقتل والتعذيب؟ وهل حقًا صُلب المسيح أم شُبّه لهم؟ وهذا ما دار بيننا:
• حضرة القس عماري، سيكون حوارنا حول قضية الصليب، دعنى أبدأ بسؤالي: من أين جاءت عقيدة صلب المسيح؟ وهل هناك شهود عيان على هذه الرواية؟
لم تأتِ عقيدة الصلب من فراغ، ولا جاءت من خيال الناس لتنهي قصة حياة شخصٍ اسمه المسيح.. وُلد وعاش ومات، حسب المقولة: تعدّدت الأسباب والموت واحد، فاخترعوا له سبباً للوفاة فقالوا: "صُلب". ولنفترض جدلاً أن الصلب لم يحدث أبداً للمسيح، ألا ترى حينها أننا نقف أمام فراغ مبهم في تاريخ حياة المسيح لا تفسير له؟ فكيف انتهت إذاً حياتُه؟ ولماذا يغفلُ الوحي من ذكر ذلك بتفاصيله الدقيقة؟ ألم يحدِّثنا الوحي عن تفاصيل ميلاده بكل دقةٍ ووضوح؟
وهل يُعقل أن تبقى هناك فترةٌ مبهمة في تاريخ حياة المسيح؟ فكيف كانت نهاية هذا الشخص العظيم الذي لم يعرف العالم على مدى التاريخ أعظم منه أو من يماثله في الجلال؟ أيُعقل أن نعرف عن أفلاطون، وهنيبعل، وأمرؤ القيس، وجبران خليل جبران، كيف ماتوا وكيف انتهت حياتهم، ثم عندما نأتي إلى سيرة حياة سيد فاق جميعهم مجداً كالمسيح لا نعرف شيئاً عن تفاصيل نهاية حياته؟ أو أن تتضارب الروايات حول وكيفية نهاية حياته؟ وهو العظيم الذي عاش أعظم من عظيم فأبهر الدنيا بمعجزاته وتعاليمه وأقواله ومبادئه وسلوكياته! أيُعقل هذا؟
أما الحق، فالرواية الوحيدة الواضحة التي بقيت لوحدها في الميدان على مرّ الزمن بلا منافس ولا جدال وهي مبنية على علمٍ صحيح بخصوص نهاية حياة المسيح على الأرض هي رواية الصليب كما دونها الوحي في إنجيل الحق. وفوق هذا وذاك للرواية شهود كثيرون، منهم قديسون مؤمنون هم أتباعٌ للمسيح الذين شاهدوا الحدث وهم بكامل وعيهم، وحاشا لله أن يضلهم أو يخادعهم في ما رأوه، فهؤلاء ممن قيل عنهم "وآمنت فئة" ولم يكونوا من الكافرين. وهناك شهود آخرون من أعداء المسيح الذين نادوا بصلبه فحرصوا على أن يشاهدوا تنفيذ المهمة بكل دقة. ومعهم أيضاً كان الجنود الرومان الذين نفذوا عملية الصلب، وكان غيرهم جموعٌ أخرى حملتهم الأقدار أن يمروا في الطريق المحاذي لساحة الصلب، وهناك غيرهم ممن تتبعوا الأخبار فجاءوا يدفعهم حب الاستطلاع وشاهدوا ما جرى. فأي حاكم أو قاضٍ عادل يُسقط شهادة كل هؤلاء الشهود ويأمر بملف القضية للحفظ بسبب عدم توافر الأدلة، والأدلة كثيرة؟!
• من وجهة نظرك، ماذا يعني الفداء في المسيحية؟
دعني أبيّن لك بأقصى ما يمكن من تبسيط معنى الفداء في المسيحية في ضوء فلسفة الصليب (إن جاز التعبير) فذلك يسهّل عليك وعلى غيرك استيعاب مبدأ الصليب وما له من علاقة بعدل الله: فنحن كبني آدم أُصبنا بداءٍ عمانا جميعاً بلا استثناء، ولم يفلت من هذا الداء إنسان واحد. وهذا الداء يسميه كتاب الله سواء في التوراة أو الإنجيل "الخطية"، فنحن جميعاً توارثنا في دمائنا من أبينا آدم طبيعة الخطية، بعد سقوطه في معصية الله، والخطية غرست فينا الميل إلى الإثم في الفكر والقول والعمل، وهذا الواقع الذي نعيشه كبشر لا يستطيع أحد أن ينكره لأن ظواهر الخطية واضحة تحت نور الشمس. فالخطية سافرة في الشارع، في البيت، في المكتب، في المصنع، في مداخلات الناس وتعاملهم اليومي.
هذه كلها صور تؤكد أن الإنسان بطبيعته آثم ضعيف أمام شهوات الخطية وسرعان ما يسقط في حبائلها.. ولهذا استحق علينا جميعاً العقاب، ولهذا أيضاً طردنا من جنة الله، وما زلنا نعيش في أرض المنفى بعيداً عن الجنة منذ آلاف السنين، ولذلك شرَّع الله للبشرية من بعد سقوط آدم مباشرةً بأن يتم الفداء عن طريق دم الأضاحي.. وسار الأمر كذلك حتى قبل الشريعة الموسوية على اعتبار أنها أول شريعة ربانية عرفتها البشرية.
• كيف يرضى الله بتقديم المسيح على الصليب كأضحية بشرية لا حيوانية؟
دعني أذكرك بسابقةٍ مرت في التاريخ نعرفها جميعنا وهي ما جرى مع أبينا إبراهيم خليل الله، فكلنا يذكر أن الله طلب من نبيِّه إبراهيم أن يأخذ ابنه وحيده ابن الموعد الذي جاء بمعجزة وبإعلان سابق بعد فوات سن الحمل، ابن الدلال الغالي إسحاق، ليقدمه ذبيحة أضحية لله في مكانٍ عيّنه له الله، وهو ما يسميه البعض بالأضحية البشرية. حَدَثٌ خُطط له وبوشر بالتمهيد له بدقة ثم أعفي عن الضحيّة وقُدّم البديل من الله بوضوح الرؤيا وعلى المكشوف.
فعندما سمع إبراهيم قول الله لم يتردد وبكّر صباحاً وسافر على دابته يرافقه ابنه واثنان من خدامه إلى جبل المريّا في مدينة "يبوس" التي هي أورشليم-القدس المكان الذي عينه له الله لتقديم ابنه فيه. وبعد أن وصل، بنى إبراهيم حجارة المذبح ووضع عليه الحطب ثم أمسك بابنه فلذة كبده وربطه فوق المذبح، والصبي منذهل لا يدري ما الذي يجري حوله، ثم رفع إبراهيم السكين ليهوي بها على عنق ابنه طاعة لله وحسب أمره!
عندها تدخّل الله ونادى: إبراهيم إبراهيم! ارفع يدك. فالتفت إبراهيم حوله، وإذا بكبشٍ صحيح سليم ممسكٍ بقرنيه في أشجار الغابة خلفه. ففكّ ولده وأخذ الكبش وقدّمه أُضحيةً لله بدل ابنه، فمات الكبش ونجا الصبي.
ونتساءل: من أين هبط الكبش على إبراهيم؟ أيعقل أن الله استعاره من أغنام الناس؟ حاشا... فالكبش هبط على إبراهيم من عند الله وليس من سلالات أغنام البشر!
• ما العبرة من كل هذا؟
العبرة هنا، كما أنزل الله كبشاً من علياء سمائه ليفدي ولد ابراهيم، أنزل الله إلينا حملاً طاهراً نقياً كنقاوة الثلج وأكثر، فكان المسيح هو الحمل، ومات المسيح عنّا على الصليب ليحلَّ مكاننا، ويحمل عنّا عقاب خطايانا، وينزع عنا حكم الموت في عذاب الأبدية. مات هو لنحيا نحن، وبموته ذاك أخذ العدل حقه والرحمة منحتنا الغفران. في حادثة إبراهيم مات الكبش وعاش إسحاق، وفي حدث الصليب مات المسيح وبموته نلنا الحياة.
هنا ملاحظة لا بد من توضيحها: فالمذنب المحكوم عليه بالموت عادةً يُقتل ويموت ويُدفن وينتهي به الأمر في قبره "يشبع فيه موتاً" إلى يوم القيامة. أما المسيح الذي ناب عن الأشرار كما ناب الكبش عن إسحق، فلكي تبدو براءتهُ واضحة في نور الشمس، بعدما مات ودفن، لم يلبث في قبره بل قام في فجر الأحد دائساً الموت تحت قدميه، فصار لنا يوم قيامته عيداً نعيِّدُهُ في مطلع كل أسبوع.