أذار (مارس) 2009
أبدأ هذه الرسالة بآية وردت في سفر الملوك الأول وهذه كلماتها: “لأَنَّ دَاوُدَ عَمِلَ مَا هُوَ مُسْتَقِيمٌ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ وَلَمْ يَحِدْ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا أَوْصَاهُ بِهِ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِهِ، إِلاَّ فِي قَضِيَّةِ أُورِيَّا الْحِثِّيِّ” (1ملوك 5:15).
قضية أوريا الحثي هي لطخة سوداء في حياة داود الملك والنبي.. هي قضية كان الجاني فيها داود النبي، وكانت جريمته مزدوجة، فقد زنى مع بثشبع زوجة أوريا الحثي، وقتل زوجها في الحرب بمؤامرة دنيئة.
وتقول سقطة داود الشنيعة: إنه لا توجد مرحلة في عمر الإنسان يكون فيها في عصمة من السقوط.
كما تقول: “إِذًا مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ، فَلْيَنْظُرْ أَنْ لاَ يَسْقُطَ” (1كورنثوس 12:10).
وتقول أيضاً: إن سقطة واحدة من هذا النوع تُشوِّه على الأيام تاريخ الإنسان “اَلذُّبَابُ الْمَيِّتُ يُنَتِّنُ وَيُخَمِّرُ طِيبَ الْعَطَّارِ”(جامعة 1:10).
وسأضع حديثي في هذه الرسالة في ثلاث كلمات:
أولاً: الخطوات المؤدية إلى السقوط
1. نسيان المؤمن لمقامه
داود هو القائد الأعلى للجيش باعتباره الملك.. وكان يجب أن يكون على رأس الجيش المحارب لبني عمون ورِبَّة.. لكننا نقرأ عنه أنه أرسل يوآب وعبيده “وَأَمَّا دَاوُدُ فَأَقَامَ فِي أُورُشَلِيمَ” (2صموئيل 1:11).
مقام المؤمن أن يكون مع الجيش المحارب، لا أن يتخلّى عن مقامه ومسئوليته.. ونسيان المؤمن لمقامه في المسيح هو أول خطوة نحو سقوطه في الخطية.
2. التلصّص على بيوت الآخرين
“وَكَانَ فِي وَقْتِ الْمَسَاءِ أَنَّ دَاوُدَ قَامَ عَنْ سَرِيرِهِ وَتَمَشَّى عَلَى سَطْحِ بَيْتِ الْمَلِكِ، فَرَأَى مِنْ عَلَى السَّطْحِ امْرَأَةً تَسْتَحِمُّ. وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ جَمِيلَةَ الْمَنْظَرِ جِدًّا” (2صموئيل 2:11).
العين باب للشر أو باب للنور، ولذا قال أيوب: “عَهْدًا قَطَعْتُ لِعَيْنَيَّ، فَكَيْفَ أَتَطَلَّعُ فِي عَذْرَاءَ؟” (أيوب 1:31). وقال يسوع المسيح: “سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِمًا، فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلاَمًا فَالظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ” (متى 22:6-23).
داود رأى المرأة تستحمّ وأطال النظر إليها حتى ملكت على مشاعره..
3. الخضوع لجاذبية الشهوة
رأى داود المرأة.. وأعجبه جمالها وهي عارية “فَأَرْسَلَ دَاوُدُ رُسُلاً وَأَخَذَهَا، فَدَخَلَتْ إِلَيْهِ، فَاضْطَجَعَ مَعَهَا وَهِيَ مُطَهَّرَةٌ مِنْ طَمْثِهَا” (2صموئيل 4:11).
وصل داود إلى آخر خطوات السقوط.
“لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ: إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ اللهِ، لأَنَّ اللهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِالشُّرُورِ، وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَدًا. وَلكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُجَرَّبُ إِذَا انْجَذَبَ وَانْخَدَعَ مِنْ شَهْوَتِهِ. ثُمَّ الشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً، وَالْخَطِيَّةُ إِذَا كَمَلَتْ تُنْتِجُ مَوْتًا” (يعقوب 13:1-15).
حامي القانون كسر القانون.
4. تغطية الخطية بخطية أكبر
“وَحَبِلَتِ الْمَرْأَةُ، فَأَرْسَلَتْ وَأَخْبَرَتْ دَاوُدَ وَقَالَتْ: إِنِّي حُبْلَى” (2صموئيل 5:11).
ما الطريق للخروج من هذه الورطة الكبرى؟
وجد داود أن الطريق الوحيد لتغطية زناه مع بثشبع أن يُحضِر زوجها “أوريا” ليذهب إلى بيته ويضطجع مع زوجته.. لكن أوريا كان من الأمانة والتكريس لمركزه العسكري فلم يذهب إلى بيته، ولما سأله داود: “لِمَاذَا لَمْ تَنْزِلْ إِلَى بَيْتِكَ؟ فَقَالَ أُورِيَّا لِدَاوُدَ: إِنَّ التَّابُوتَ وَإِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا سَاكِنُونَ فِي الْخِيَامِ، وَسَيِّدِي يُوآبُ وَعَبِيدُ سَيِّدِي نَازِلُونَ عَلَى وَجْهِ الصَّحْرَاءِ، وَأَنَا آتِي إِلَى بَيْتِي لآكُلَ وَأَشْرَبَ وَأَضْطَجعَ مَعَ امْرَأَتِي؟ وَحَيَاتِكَ وَحَيَاةِ نَفْسِكَ، لاَ أَفْعَلُ هذَا الأَمْرَ” (2صموئيل10:11-11).
كان أوريا حثِّيّاً من الشعب الذي قضى الله بفنائه، لكنه انضم إلى جيش إسرائيل، وانفصل عن ماضيه، وصار بكل قلبه جندياً أميناً في جيش الرب، ورفض أن يطلب راحة نفسه وجيش الرب في الخيام.
ودبّر داود مؤامرة لقتل أوريّا، ليتزوَّج زوجته ويغطّي خطيته. وقُتل أوريا وغطّى داود خطية الزنى بخطية القتل؛ كسر وصيتين من الوصايا العشر.
ولما مضت أيام مناحة أوريا أرسل داود وضمّ بثشبع إلى بيته وصارت له امرأة.
ولو كانت هناك صحف يومية تُطبَع وتُوزَّع، لكان العنوان في الصفحة الأولى: “الملك الرحيم داود يتزوَّج أرملة القائد أوريّا”.
تغطّت جرائم داود بإتقان.
ثانياً: العقاب الإلهي للسقوط المشين
سقط داود سقوطاً مشيناً.
“إِنْ رَأَيْتَ ظُلْمَ الْفَقِيرِ وَنَزْعَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِي الْبِلاَدِ، فَلاَ تَرْتَعْ مِنَ الأَمْرِ، لأَنَّ فَوْقَ الْعَالِي عَالِيًا يُلاَحِظُ، وَالأَعْلَى فَوْقَهُمَا” (جامعة 8:5).
“فِي كُلِّ مَكَانٍ عَيْنَا الرَّبِّ مُرَاقِبَتَانِ الطَّالِحِينَ وَالصَّالِحِينَ” (أمثال 3:15).
أخفى الملك داود جرائمه عن الناس.. لكنه لم يستطع أن يخفيها عن الله.
وأرسل الرب إليه ناثان النبي ليعلن له العقاب الإلهي. قال ناثان النبي لداود الملك:
“لِمَاذَا احْتَقَرْتَ كَلاَمَ الرَّبِّ لِتَعْمَلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيْهِ؟ قَدْ قَتَلْتَ أُورِيَّا الْحِثِّيَّ بِالسَّيْفِ، وَأَخَذْتَ امْرَأَتَهُ لَكَ امْرَأَةً، وَإِيَّاهُ قَتَلْتَ بِسَيْفِ بَنِي عَمُّونَ. وَالآنَ لاَ يُفَارِقُ السَّيْفُ بَيْتَكَ إِلَى الأَبَدِ، لأَنَّكَ احْتَقَرْتَنِي وَأَخَذْتَ امْرَأَةَ أُورِيَّا الْحِثِّيِّ لِتَكُونَ لَكَ امْرَأَةً. هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: هأَنَذَا أُقِيمُ عَلَيْكَ الشَّرَّ مِنْ بَيْتِكَ، وَآخُذُ نِسَاءَكَ أَمَامَ عَيْنَيْكَ وَأُعْطِيهِنَّ لِقَرِيبِكَ، فَيَضْطَجعُ مَعَ نِسَائِكَ فِي عَيْنِ هذِهِ الشَّمْسِ. لأَنَّكَ أَنْتَ فَعَلْتَ بِالسِّرِّ وَأَنَا أَفْعَلُ هذَا الأَمْرَ قُدَّامَ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ وَقُدَّامَ الشَّمْسِ” (2صموئيل 9:12-12).
وما قاله الرب فعله..
ارتكاب الخطية احتقار لكلام الرب وبالتالي احتقار للرب، ولا بد من أن يعاقب فاعلها، وهكذا كان.
الابن الذي ولدته بثشبع من الزنى مات.
أمنون اغتصب أخته ثامار.
أبشالوم قتل أخاه أمنون.
أبشالوم حاول اغتصاب عرش داود.
شمعي بن جيرا سبّ الملك داود.
أي هوان أصاب الملك العظيم!
ثالثاً: القيام من السقوط
كانت أول خطوة في طريق القيام من السقوط الاعتراف بالخطية.
“فَقَالَ دَاوُدُ لِنَاثَانَ: قَدْ أَخْطَأْتُ إِلَى الرَّبِّ. فَقَالَ نَاثَانُ لِدَاوُدَ: الرَّبُّ أَيْضًا قَدْ نَقَلَ عَنْكَ خَطِيَّتَكَ. لاَ تَمُوتُ” (2صموئيل 13:12).
كانت خطايا داود تستوجب الموت، لكن الرب نقل عن داود خطيته ووضعها على يسوع المسيح الذي سدد أجرتها حين تجسّد ومات على الصليب.. وعلينا أن نذكر أن الله ليس عنده حدوداً للزمان، فالماضي والحاضر والمستقبل عنده حاضر.. وخطايا المؤمنين الماضية والحاضرة والمستقبلة معروفة عنده وسدّد أجرتها ابنه يسوع المسيح.
لكن هناك حقيقة يجب أن لا تغيب عن أذهاننا وهي أن موت المسيح على الصليب سدد العقاب الأبدي لخطايانا.. أما العقاب الزمني فيبقى ويتحمّله المؤمن الذي تعدّى وصايا الرب.
بعد انصراف ناثان النبي رفع داود صلاته إلى الرب، وهي الصلاة التي وردت في المزمور الحادي والخمسين.. وهو مزمور المؤمن التائب. فالتوبة معناها تغيير الفكر وتغيير الاتجاه.
لجأ داود إلى رحمة الله وكثرة رأفته لنوال الغفران فقال:
“اِرْحَمْنِي يَا اَللهُ حَسَبَ رَحْمَتِكَ. حَسَبَ كَثْرَةِ رَأْفَتِكَ امْحُ مَعَاصِيَّ. اغْسِلْنِي كَثِيرًا مِنْ إِثْمِي، وَمِنْ خَطِيَّتِي طَهِّرْنِي. لأَنِّي عَارِفٌ بِمَعَاصِيَّ، وَخَطِيَّتِي أَمَامِي دَائِمًا. إِلَيْكَ وَحْدَكَ أَخْطَأْتُ، وَالشَّرَّ قُدَّامَ عَيْنَيْكَ صَنَعْتُ، لِكَيْ تَتَبَرَّرَ فِي أَقْوَالِكَ، وَتَزْكُوَ فِي قَضَائِكَ”
(مزمور 1:51-4).
طلب داود من الرب أن يمحو خطيته بكل آثارها في حياته. ولجأ إلى رحمة الله لا إلى عدله.. ورأى أن خطيته ثقل على ضميره تملأه بالشعور بالذنب فطلب من الرب أن يمحوها.. ورأى أن آثامه قذرة وطلب من الرب أن يغسله ويطهره منها.
واعترف أن خطيته هي بالدرجة الأولى إلى الله.. مع أنه أخطأ ضدّ أوريا، وضدّ بثشبع، وضدّ الجيش، وضدّ العرش الذي هو جالس عليه.. لكنه قال: “إِلَيْكَ وَحْدَكَ أَخْطَأْتُ”.
كذلك اعترف أنه ورث خطية آدم إذ قال: “هأَنَذَا بِالإِثْمِ صُوِّرْتُ، وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي” (مزمور 5:51).
وطلب التطهير الداخلي..
فقال: “ها قد سررت بالحق في الباطن ففي السريرة تعرفني حكمة”. وطلب التطهير بالزوفا، والزوفا نبات كان يستعمل لرش الدم في عيد الفصح وللتطهير.
وطلب الغسل ليصير أبيض من الثلج.
ويقول يوحنا الرسول: "إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ" (1يوحنا 9:1)، ويؤكد أن دم "يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ" (1يوحنا 7:1).
وطلب أن يُسمِعه الرب سروراً وفرحاً، ويستر وجهه عن خطاياه، ويخلق فيه قلباً نقياً. ويردّ له بهجة خلاصه. فالمؤمن المولود في المسيح، حين يسقط يفقد بهجة خلاصه ولكنه لا يفقد خلاصه. واستمر داود فطلب من الرب أن يعضده بروح منتدبة، وحصل على هذا التطهير الكامل ليكون إناء للكرامة مقدساً نافعاً للسيد إذ قال: “فَأُعَلِّمَ الأَثَمَةَ طُرُقَكَ، وَالْخُطَاةُ إِلَيْكَ يَرْجِعُونَ”
(مزمور 13:51).
بعد السقوط هناك إمكانية للقيام، وتعليم الأثمة طرق الرب، وقيادة الخطاة للرجوع إليه.
فيا أيها المؤمن الساقط، انهض من سقطتك وردد كلمات ميخا النبي: “لاَ تَشْمَتِي بِي يَا عَدُوَّتِي، إِذَا سَقَطْتُ أَقُومُ” (ميخا 8:7). فالرب في حنانه ينتظر عودتك، ليردّ لك بهجة خلاصك.
أبدأ هذه الرسالة بآية وردت في سفر الملوك الأول وهذه كلماتها: “لأَنَّ دَاوُدَ عَمِلَ مَا هُوَ مُسْتَقِيمٌ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ وَلَمْ يَحِدْ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا أَوْصَاهُ بِهِ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِهِ، إِلاَّ فِي قَضِيَّةِ أُورِيَّا الْحِثِّيِّ” (1ملوك 5:15).
قضية أوريا الحثي هي لطخة سوداء في حياة داود الملك والنبي.. هي قضية كان الجاني فيها داود النبي، وكانت جريمته مزدوجة، فقد زنى مع بثشبع زوجة أوريا الحثي، وقتل زوجها في الحرب بمؤامرة دنيئة.
وتقول سقطة داود الشنيعة: إنه لا توجد مرحلة في عمر الإنسان يكون فيها في عصمة من السقوط.
كما تقول: “إِذًا مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ، فَلْيَنْظُرْ أَنْ لاَ يَسْقُطَ” (1كورنثوس 12:10).
وتقول أيضاً: إن سقطة واحدة من هذا النوع تُشوِّه على الأيام تاريخ الإنسان “اَلذُّبَابُ الْمَيِّتُ يُنَتِّنُ وَيُخَمِّرُ طِيبَ الْعَطَّارِ”(جامعة 1:10).
وسأضع حديثي في هذه الرسالة في ثلاث كلمات:
أولاً: الخطوات المؤدية إلى السقوط
1. نسيان المؤمن لمقامه
داود هو القائد الأعلى للجيش باعتباره الملك.. وكان يجب أن يكون على رأس الجيش المحارب لبني عمون ورِبَّة.. لكننا نقرأ عنه أنه أرسل يوآب وعبيده “وَأَمَّا دَاوُدُ فَأَقَامَ فِي أُورُشَلِيمَ” (2صموئيل 1:11).
مقام المؤمن أن يكون مع الجيش المحارب، لا أن يتخلّى عن مقامه ومسئوليته.. ونسيان المؤمن لمقامه في المسيح هو أول خطوة نحو سقوطه في الخطية.
2. التلصّص على بيوت الآخرين
“وَكَانَ فِي وَقْتِ الْمَسَاءِ أَنَّ دَاوُدَ قَامَ عَنْ سَرِيرِهِ وَتَمَشَّى عَلَى سَطْحِ بَيْتِ الْمَلِكِ، فَرَأَى مِنْ عَلَى السَّطْحِ امْرَأَةً تَسْتَحِمُّ. وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ جَمِيلَةَ الْمَنْظَرِ جِدًّا” (2صموئيل 2:11).
العين باب للشر أو باب للنور، ولذا قال أيوب: “عَهْدًا قَطَعْتُ لِعَيْنَيَّ، فَكَيْفَ أَتَطَلَّعُ فِي عَذْرَاءَ؟” (أيوب 1:31). وقال يسوع المسيح: “سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِمًا، فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلاَمًا فَالظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ” (متى 22:6-23).
داود رأى المرأة تستحمّ وأطال النظر إليها حتى ملكت على مشاعره..
3. الخضوع لجاذبية الشهوة
رأى داود المرأة.. وأعجبه جمالها وهي عارية “فَأَرْسَلَ دَاوُدُ رُسُلاً وَأَخَذَهَا، فَدَخَلَتْ إِلَيْهِ، فَاضْطَجَعَ مَعَهَا وَهِيَ مُطَهَّرَةٌ مِنْ طَمْثِهَا” (2صموئيل 4:11).
وصل داود إلى آخر خطوات السقوط.
“لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ: إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ اللهِ، لأَنَّ اللهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِالشُّرُورِ، وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَدًا. وَلكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُجَرَّبُ إِذَا انْجَذَبَ وَانْخَدَعَ مِنْ شَهْوَتِهِ. ثُمَّ الشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً، وَالْخَطِيَّةُ إِذَا كَمَلَتْ تُنْتِجُ مَوْتًا” (يعقوب 13:1-15).
حامي القانون كسر القانون.
4. تغطية الخطية بخطية أكبر
“وَحَبِلَتِ الْمَرْأَةُ، فَأَرْسَلَتْ وَأَخْبَرَتْ دَاوُدَ وَقَالَتْ: إِنِّي حُبْلَى” (2صموئيل 5:11).
ما الطريق للخروج من هذه الورطة الكبرى؟
وجد داود أن الطريق الوحيد لتغطية زناه مع بثشبع أن يُحضِر زوجها “أوريا” ليذهب إلى بيته ويضطجع مع زوجته.. لكن أوريا كان من الأمانة والتكريس لمركزه العسكري فلم يذهب إلى بيته، ولما سأله داود: “لِمَاذَا لَمْ تَنْزِلْ إِلَى بَيْتِكَ؟ فَقَالَ أُورِيَّا لِدَاوُدَ: إِنَّ التَّابُوتَ وَإِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا سَاكِنُونَ فِي الْخِيَامِ، وَسَيِّدِي يُوآبُ وَعَبِيدُ سَيِّدِي نَازِلُونَ عَلَى وَجْهِ الصَّحْرَاءِ، وَأَنَا آتِي إِلَى بَيْتِي لآكُلَ وَأَشْرَبَ وَأَضْطَجعَ مَعَ امْرَأَتِي؟ وَحَيَاتِكَ وَحَيَاةِ نَفْسِكَ، لاَ أَفْعَلُ هذَا الأَمْرَ” (2صموئيل10:11-11).
كان أوريا حثِّيّاً من الشعب الذي قضى الله بفنائه، لكنه انضم إلى جيش إسرائيل، وانفصل عن ماضيه، وصار بكل قلبه جندياً أميناً في جيش الرب، ورفض أن يطلب راحة نفسه وجيش الرب في الخيام.
ودبّر داود مؤامرة لقتل أوريّا، ليتزوَّج زوجته ويغطّي خطيته. وقُتل أوريا وغطّى داود خطية الزنى بخطية القتل؛ كسر وصيتين من الوصايا العشر.
ولما مضت أيام مناحة أوريا أرسل داود وضمّ بثشبع إلى بيته وصارت له امرأة.
ولو كانت هناك صحف يومية تُطبَع وتُوزَّع، لكان العنوان في الصفحة الأولى: “الملك الرحيم داود يتزوَّج أرملة القائد أوريّا”.
تغطّت جرائم داود بإتقان.
ثانياً: العقاب الإلهي للسقوط المشين
سقط داود سقوطاً مشيناً.
“إِنْ رَأَيْتَ ظُلْمَ الْفَقِيرِ وَنَزْعَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِي الْبِلاَدِ، فَلاَ تَرْتَعْ مِنَ الأَمْرِ، لأَنَّ فَوْقَ الْعَالِي عَالِيًا يُلاَحِظُ، وَالأَعْلَى فَوْقَهُمَا” (جامعة 8:5).
“فِي كُلِّ مَكَانٍ عَيْنَا الرَّبِّ مُرَاقِبَتَانِ الطَّالِحِينَ وَالصَّالِحِينَ” (أمثال 3:15).
أخفى الملك داود جرائمه عن الناس.. لكنه لم يستطع أن يخفيها عن الله.
وأرسل الرب إليه ناثان النبي ليعلن له العقاب الإلهي. قال ناثان النبي لداود الملك:
“لِمَاذَا احْتَقَرْتَ كَلاَمَ الرَّبِّ لِتَعْمَلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيْهِ؟ قَدْ قَتَلْتَ أُورِيَّا الْحِثِّيَّ بِالسَّيْفِ، وَأَخَذْتَ امْرَأَتَهُ لَكَ امْرَأَةً، وَإِيَّاهُ قَتَلْتَ بِسَيْفِ بَنِي عَمُّونَ. وَالآنَ لاَ يُفَارِقُ السَّيْفُ بَيْتَكَ إِلَى الأَبَدِ، لأَنَّكَ احْتَقَرْتَنِي وَأَخَذْتَ امْرَأَةَ أُورِيَّا الْحِثِّيِّ لِتَكُونَ لَكَ امْرَأَةً. هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: هأَنَذَا أُقِيمُ عَلَيْكَ الشَّرَّ مِنْ بَيْتِكَ، وَآخُذُ نِسَاءَكَ أَمَامَ عَيْنَيْكَ وَأُعْطِيهِنَّ لِقَرِيبِكَ، فَيَضْطَجعُ مَعَ نِسَائِكَ فِي عَيْنِ هذِهِ الشَّمْسِ. لأَنَّكَ أَنْتَ فَعَلْتَ بِالسِّرِّ وَأَنَا أَفْعَلُ هذَا الأَمْرَ قُدَّامَ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ وَقُدَّامَ الشَّمْسِ” (2صموئيل 9:12-12).
وما قاله الرب فعله..
ارتكاب الخطية احتقار لكلام الرب وبالتالي احتقار للرب، ولا بد من أن يعاقب فاعلها، وهكذا كان.
الابن الذي ولدته بثشبع من الزنى مات.
أمنون اغتصب أخته ثامار.
أبشالوم قتل أخاه أمنون.
أبشالوم حاول اغتصاب عرش داود.
شمعي بن جيرا سبّ الملك داود.
أي هوان أصاب الملك العظيم!
ثالثاً: القيام من السقوط
كانت أول خطوة في طريق القيام من السقوط الاعتراف بالخطية.
“فَقَالَ دَاوُدُ لِنَاثَانَ: قَدْ أَخْطَأْتُ إِلَى الرَّبِّ. فَقَالَ نَاثَانُ لِدَاوُدَ: الرَّبُّ أَيْضًا قَدْ نَقَلَ عَنْكَ خَطِيَّتَكَ. لاَ تَمُوتُ” (2صموئيل 13:12).
كانت خطايا داود تستوجب الموت، لكن الرب نقل عن داود خطيته ووضعها على يسوع المسيح الذي سدد أجرتها حين تجسّد ومات على الصليب.. وعلينا أن نذكر أن الله ليس عنده حدوداً للزمان، فالماضي والحاضر والمستقبل عنده حاضر.. وخطايا المؤمنين الماضية والحاضرة والمستقبلة معروفة عنده وسدّد أجرتها ابنه يسوع المسيح.
لكن هناك حقيقة يجب أن لا تغيب عن أذهاننا وهي أن موت المسيح على الصليب سدد العقاب الأبدي لخطايانا.. أما العقاب الزمني فيبقى ويتحمّله المؤمن الذي تعدّى وصايا الرب.
بعد انصراف ناثان النبي رفع داود صلاته إلى الرب، وهي الصلاة التي وردت في المزمور الحادي والخمسين.. وهو مزمور المؤمن التائب. فالتوبة معناها تغيير الفكر وتغيير الاتجاه.
لجأ داود إلى رحمة الله وكثرة رأفته لنوال الغفران فقال:
“اِرْحَمْنِي يَا اَللهُ حَسَبَ رَحْمَتِكَ. حَسَبَ كَثْرَةِ رَأْفَتِكَ امْحُ مَعَاصِيَّ. اغْسِلْنِي كَثِيرًا مِنْ إِثْمِي، وَمِنْ خَطِيَّتِي طَهِّرْنِي. لأَنِّي عَارِفٌ بِمَعَاصِيَّ، وَخَطِيَّتِي أَمَامِي دَائِمًا. إِلَيْكَ وَحْدَكَ أَخْطَأْتُ، وَالشَّرَّ قُدَّامَ عَيْنَيْكَ صَنَعْتُ، لِكَيْ تَتَبَرَّرَ فِي أَقْوَالِكَ، وَتَزْكُوَ فِي قَضَائِكَ”
(مزمور 1:51-4).
طلب داود من الرب أن يمحو خطيته بكل آثارها في حياته. ولجأ إلى رحمة الله لا إلى عدله.. ورأى أن خطيته ثقل على ضميره تملأه بالشعور بالذنب فطلب من الرب أن يمحوها.. ورأى أن آثامه قذرة وطلب من الرب أن يغسله ويطهره منها.
واعترف أن خطيته هي بالدرجة الأولى إلى الله.. مع أنه أخطأ ضدّ أوريا، وضدّ بثشبع، وضدّ الجيش، وضدّ العرش الذي هو جالس عليه
.. لكنه قال: “إِلَيْكَ وَحْدَكَ أَخْطَأْتُ”.كذلك اعترف أنه ورث خطية آدم إذ قال: “هأَنَذَا بِالإِثْمِ صُوِّرْتُ، وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي” (مزمور 5:51).
وطلب التطهير الداخلي..
فقال: “ها قد سررت بالحق في الباطن ففي السريرة تعرفني حكمة”. وطلب التطهير بالزوفا، والزوفا نبات كان يستعمل لرش الدم في عيد الفصح وللتطهير.
وطلب الغسل ليصير أبيض من الثلج.
ويقول يوحنا الرسول: "إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ" (1يوحنا 9:1)، ويؤكد أن دم "يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ" (1يوحنا 7:1).
وطلب أن يُسمِعه الرب سروراً وفرحاً، ويستر وجهه عن خطاياه، ويخلق فيه قلباً نقياً. ويردّ له بهجة خلاصه. فالمؤمن المولود في المسيح، حين يسقط يفقد بهجة خلاصه ولكنه لا يفقد خلاصه. واستمر داود فطلب من الرب أن يعضده بروح منتدبة، وحصل على هذا التطهير الكامل ليكون إناء للكرامة مقدساً نافعاً للسيد إذ قال: “فَأُعَلِّمَ الأَثَمَةَ طُرُقَكَ، وَالْخُطَاةُ إِلَيْكَ يَرْجِعُونَ”
(مزمور 13:51).
بعد السقوط هناك إمكانية للقيام، وتعليم الأثمة طرق الرب، وقيادة الخطاة للرجوع إليه.
فيا أيها المؤمن الساقط، انهض من سقطتك وردد كلمات ميخا النبي: “لاَ تَشْمَتِي بِي يَا عَدُوَّتِي، إِذَا سَقَطْتُ أَقُومُ” (ميخا 8:7). فالرب في حنانه ينتظر عودتك، ليردّ لك بهجة خلاصك.