نيسان April 2005
"مادونا" المغنية الأمريكية المشهورة باتت تضع خيطاً أحمر حول معصمها كما يفعل معتنقو فلسفة "القبالاه"، لأنها فعلاً جادّةٌ بشأن معتقداتها الجديدة. ولقد زارت "مادونا" في السنة الماضية البلاد المقدسة زيارة روحية لمدة خمسة أيام لممارسة طقوس فلسفة "القبالاه" التي اعتنقتها مؤخراً. وهناك ألقت نظرة على حائط المبكى في البلدة القديمة بالقدس من على بُعد تحت جنح الظلام تجنُّباً للإزعاج الذي قد يسبِّبه لها المصوِّرون الذين كانوا بانتظارها هناك. ومكثت "مادونا" التي بدت منزعجةً داخل سيارتها أمام البناء الذي يضمُّ حائط المبكى ولوَّحت بيديها محاولةً إبعاد الصحافيين. ثم انطلقت بها السيارة بعد دقائق تحت حراسة أمنية مشددة. وهكذا انضمَّت "مادونا" إلى نحو ألفي شخص آخرين من معتنقي هذه الفلسفة من مركز "القبالاه" الذي يتَّخذ من لوس أنجلوس مقراً له للاحتفال ببدء العام اليهودي الجديد. أمَّا الاتهاماتُ الجديدة التي تُكال "لمادونا" بأنَّ هذا ليس سوى نوعٍ من ولَع المشاهير بما هو جديد، فهي تثير ضيقها الشديد.
صرعةٌ جديدة تُضاف إلى الصرعات الأخرى الكثيرة التي يتحلَّى بها عصرنا هذا. لكن ما هي "القبالاه"، وماذا تعني؟ تعني كلمة "قبالاه" في اليهودية: ما تمَّ تسليمه. و"القبالاه" كتابات ترجع إلى العصور الوسطى، وتعاليم شفهية تصف الله والإنسان، وتكشف أسرار الخلق. وارتأت "مادونا" أن تنخرط فيها عساها أن تجد ما تفتش عنه من سمو روحي واختبار يوفِّر لها الطمأنينة والسلام الداخليين.
وفي كلِّ يوم يمرُّ نسمع أخباراً عن معتقدات واعتناقات جديدة وقديمة تأخذ حيِّزاً جديداً، وتحتلُّ مركزاً جديداً يسبي عقول وقلوب أناس يفتشون عن كلِّ ما هو مثير. ويبقى الإنسان يسعى ويجاهد علَّه يجد ضالته المنشودة التي هي السعادة الداخلية وراحة النفس والضمير.
وهنا أذكر ما كتبه لي مرةً أحدُ الإخوة المؤمنين المعروفين في كنيسة دمشق – إذ كنتُ قد ارتبطت بصداقةٍ حميمةْ مع بناته من خلال المدرسة وقد أصبحتِ العائلةُ فيما بعد ذات قُربى لي عن طريق الزواج - عندما أعطيته أتوغرافي الخاص كعادة كل الفتيات في المدرسة في ذلك الحين، لكي يكتب لي عليه فيبقى كلامه ذكرى على هذا الدفتر الصغير. فكتب لي هذه الكلمات:
تبقى النفس عطشى وتتجه صوب اتجاهات كثيرة ظناً منها أنها ستجد فيها الارتواء فلا تجد وعبثاً تحاول. ولكنَّ النتيجة سرابٌ في سرابْ، وعطشٌ فوق عطش، وجوعٌ فوق جوع. فتبقى حَيرى مضطربة إلى أن تتَّجه باتجاه الصخرة المضروبة حيث تفجَّرت منها ينابيعُ الحياة فتجد في يسوع المسيح المصلوب ضالَّتها المنشودة. فتنحني لتشرب وتشرب، فتشرب وترتوي، "فتزهر كالسوسن ويكون بهاؤها كالزيتونة، ولها رائحة كلبنان، وكسروةٍ خضراء." وختم كلماته بهذه الآية قائلاً: "من هو حكيم حتى يفهم هذه الأمور وفهيم حتى يعرفها."
أجل، فمن هو حكيم حتى يفهم هذه الأمور، وفهيم حتى يعرفها؟ لأن الحكمة في هذه الأيام أخذت طابعاً مختلفاً عن السابق وغُلِّفت بمفاهيم جديدة، وصار الحكيمُ الحكيم هو كل مَنْ يبتكر شيئاً جديداً أو يعتنق ما هو مثير وغريب. والعجيب هو أنَّ العجائب مقيمةٌ أبداً فينا، وفوقَنا، وتحتَنا، وحولَنا، وأننَّا لا ننفكُّ نطلب عجيبة، على حدِّ قول ميخائيل نعيمة الأديب اللبناني المعروف. وكما تفتّشُ "مادونا" على اختبار روحيٍّ جديد في كتاباتٍ ترجع إلى العصور الوسطى، وتعاليمَ شفهية تصف الله والإنسان، وتكشف أسرار الخلق، هكذا يفتش الكثيرون عن اختباراتٍ روحية سامية ترفعهم إلى عالمٍ آخر، هو عالم الروح عساهم يدركون حقيقة هذا الكون وأبعاده العجيبة. وليس هذا فحسب، بل نرى الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله أصبح يخلِق - وفي كلِّ يوم - إلهاً جديداً حسب مداركه وميوله، حتى بات عددُ الآلهةِ في الأرض موازياً عددَ سكانها.
وهنا تحضُرني هذه الحادثة في كلمة الله المقدسة التي هي أثبت وأبقى، والتي دوَّنها لنا بوحي من روح الله القدوس البشير متى في إنجيله، الفصل الثاني عشر إذ يقول:
"حينئذ أجاب قوم من الكتبة والفريسيين قائلين يا معلم نريد أن نرى منك آية. فأجاب وقال لهم جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تُعطى له آية إلا آية يونان النبي. لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال. رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل ويدينونه لأنهم تابوا بمناداة يونان. وهوذا أعظم من يونان ههنا."
(متى 12: 38-41)
أجل، أجيالٌ أتتْ وأخرى تأتي، والكلُّ يطلب معجزةً تُجرىأمام عينيه لكي يؤمن ويصدّق مع أنَّ هذا الطلب ينفي ماهيَّة الإيمان الذي هو الثقة بما يرجى والإيقان بأمور لا ترى. والمعجزة المعجزة هي التي أشارت إليها كتبُ العهد القديم، التوراة وأسفار الأنبياء مجتمعةً، بالرموز والنبوءات. أشارت هذه كلُّها إلى نفس الشخص العجيب الذي سيأتي من السماء إلى عالم البشر وسيتمِّمُ خطة الله تعالى في إظهار خلاصه للبشرية جمعاء من كبيرها إلى صغيرها دون فرق. هذا الشخص العجيب والمتنبأ عنه أتى ليتمم الوعد ويموت على الصليب لكي يرفع بجسده عقاب خطايانا جميعاً ليس خطايا المؤمنين به فحسب، بل خطايا كلِّ العالم أيضاً. هذا هو الذي قال عن نفسه:
"أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي."
"أنا هو الباب. إن دخل بي أحد فيخلص ويدخل ويخرج ويجد مرعى."
"أنا هو الراعي الصالح والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف."
"أنا هو القيامة والحياة، من آمن بي ولو مات فسيحيا".
أجل، هذه هي معجزة الدهور، وآيةُ الآيات، وعجيبة العجائب. المعجزة هي أن يَظهر الله في الجسد، ويصير إنساناً مثلنا، فيشعر ويحس بكل ما يشعر ويحس به الإنسان؛ لكن، من دون خطية لكي يستطيع بالتالي أن يصير ذبيحة وكفارة عن خطية الإنسان. هذه هي الآية العظمى التي ظهرت منذ ألفيّ عام، الآية التي ما زالت إلى اليوم تخلّص الملايين من الناس من الموت الأبدي. فهل ما زلتَ تطلب آيةً يا صديقي؟ وهل ما زلت تفتش وتسعى للحصول على ما يُسعدك ويفرّح قلبك من الداخل؟ أرجو أن لا يكون سعيُك هذا سراباً في سراب، وعطشاً فوق عطش، وجوعاً فوق جوع، كما كتب قريبي العزيز ناصحاً. بل أرجو ألاَّ تنجرف وراء صرعات المشاهير الواهية، وبدع هذه الأيام الجوفاء. لأن
”الله، بعد ما كلَّم الآباء بالأنبياء قديماً، بأنواع وطرق كثيرة، كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه - الذي جعله وارثاً لكل شيء، الذي به أيضاً عمل العالمين. الذي وهو بهاءُ مجده، ورسمُ جوهره، وحاملٌ كلَّ الأشياء بكلمة قدرته، بعد ما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا، جلس في يمين العظمة في الأعالي.“
هذه هي آيةُ الآيات.. إنَّ كلمة الله الأزلي أحبَّني أنا، وأسلم نفسه لأجلي ليمنحني هذا الخلاص المجاني. هذا الخلاص الذي طالما فتَّش وبحث عنه أنبياء، صار في متناول كل إنسان بغض النظر عن معتقده أو طائفته أو ديانته التي وُلد وترعرع وشبَّ عليها. فهل تتوقف صديقي عن البحث والاستقصاء والسعي لأن الذي أحبَّك هو الوحيد الذي مات من أجلك ومن أجلي لأنه لم يقدِمْ على هذا الفعل أحدٌ غيره قط. آن الأوان لكي تقيِّم معتقدك وتفكّر بما ورثته عن أهلك، ليس لكي تتبنَّى معتقدات جديدة أو تتبع صرعات حديثة، لكن لكي تصل إلى الحق الذي هو وحده الرب يسوع المسيح. ووحده يستحق كل مجد وكرامة وسلطان إلى الأبد. عندها ستهتف وتنشد وتقول مع المرنم:
مستحق كل المجد يا يسوع
كل ركبة تسجد ليك
واللسان يعترف بيك
مستحق كل المجد يا يسوع