آب (أغسطس) 2005
"ثم إن ملاك الرب كلَّم فيلبس قائلاً: "قم واذهب نحو الجنوب، على الطريق المنحدرة من أورشليم إلى غزة التي هي برية. فقام وذهب. وإذ رجل حبشي خصي وزير لكنداكة ملكة الحبشة، كان على جميع خزائنها - فهذا كان قد جاء إلى أورشليم ليسجد. وكان راجعاً وجالساً على مركبته وهو يقرأ النبي إشعياء. فقال الروح لفيلبس: تقدّم ورافق هذه المركبة. فبادر إليه فيلبس، وسمعه يقرأ النبي إشعياء، فقال ألعلك تفهم ما أنت تقرأ؟ فقال كيف يمكنني إن لم يرشدني أحد؟ وطلب إلى فيلبس أن يصعد ويجلس معه. وأما فصل الكتاب الذي كان يقرأه فكان هذا: مثل شاة سيق إلى الذبح، ومثل خروف صامت أمام الذي يجزّه هكذا لم يفتح فاه. في تواضعه انتَزَع قضاؤه. وجيله من يخبر به، لأن حياته تنتزع من الأرض؟ فأجاب الخصي فيلبس وقال: أطلب إليك عن من يقول النبي هذا؟ عن نفسه أم عن واحد آخر. ففتح فيلبس فاه وابتدأ من هذا الكتاب [سفر إشعياء] فبشّره بيسوع.
تلك هي قصة المركبة الراكضة في برية غزة... ما أقربها من عالمنا المعاصر الراكض في فراغ موحش في قلب طريق منحدر. وما أقربها منه في حاجته إلى مد الإنجيل يتقدم ويرافق هذه المركبة ليقدم لها إكسير الحياة.
هذه المركبة الراكضة وراء تلال التاريخ تتحدث إلى عالمنا المعاصر بأربع حقائق هامة:
1- حاجة النفس البشرية
أمامنا هنا رجل محظوظ جادت عليه الدنيا بخيراتها. كان يتمتع بكل ما يهفو إليه شباب العصر.. يجري المال بين يديه كالماء.. ويملك السطوة والنفوذ... فمن حيث المركز فهو وزير لكنداكة ملكة الحبشة.. ومن حيث الجاه، كان على كل خزائنها.. ومن حيث الحظوة والقرب.. حدِّثْ ولا حَرَج، فقد أُعطي أن يضع يده على عصب الدولة الحساس!! فما الذي كان يعوزه بعد؟ ما الذي جعله يقطع الفيافي والقفار ويعبر الوديان والتلال ليأتي من أقصى الجنوب الحبشي إلى أقصى الشمال الكنعاني.. إلى أرض فلسطين.. إلى هيكل أورشليم؟!! تلك هي حاجة الإنسان الكبرى.. تلك هي حاجتنا جميعاً إلى الله.. إلى الإيمان.. إلى الحياة الأخرى.. تلك الحاجة التي عبَّر عنها القديس أغسطينوس بالقول: "يا رب لقد خلقتنا لنفسك ولا تستريح نفوسنا إلا بين يديك".
هذه الحاجة - عزيزي القارئ - لا يشبعها المال.. ولا المركز.. ولا الحظوة.. ولا الأبناء.. ولا كل ما في الوجود من أملاك ومقتنيات.. فالكل بإزائها باطل وقبض الريح - إنها حاجة الضمير المعذَّب من جراء الشعور بالذنب، والذي لا شفاء له إلا في نعمة الغفران. نعم، حاجة النفس البشرية. ولنأتِ الآن إلى الحقيقة الثانية التي تتحدث بها إلينا هذه المركبة الراكضة ألا وهي:
2- عجز الديانة الشكلية
جاء الخصي الحبشي من أقصى الجنوب إلى أورشليم.. لا بد أنه سمع عن هيكلها العظيم، وعن نهر الشريعة، وعن الذبائح التي تُنحر في الهيكل تكفيراً عن الخطايا والذنوب!! لا بد أنه سمع عن الفرائض، والطقوس، والصلوات، والبخور المتصاعد، والكهنة الذين يتمتمون أقوال الناموس صباح مساء.. وجاء الرجل إلى هناك. لم يترك شيئاً إلا وفعله.. ولم يُهمل طقساً إلا وأتمّه. لا أخاله إلا وقد غطس في نهر الشريعة.. ونحر الذبائح الكثيرة.. بل ربما لمس حوائط الهيكل وأعمدته.. لامسها بيديه وقبّلها بشفتيه. لكن وأسفاه!! فعلى الرغم من كل هذا عاد هذا المسكين مثلما جاء.. لم يكن العيب في الدين.. لكنه كان في هذا الإنسان.. وما أكثر الذين على شاكلته اليوم، يظنون أن الحياة الجديدة هي ممارسات طقسية، وأوضاع جسدية، ومظاهر شكلية، وتمتمات كلامية، والقلب باق كما هو.. بل وأشرّ. وفات هؤلاء أن طريق الله للخلاص هو "ليترك الشرير طريقه ورجل الإثم أفكاره وليتب إلى الرب فيرحمه وإلى إلهنا لأنه يكثر الغفران"؛ "آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص أنت وأهل بيتك"؛ "توبوا وآمنوا بالإنجيل.."؛ "إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون"؛ "فتوبوا وارجعوا لتُمحى خطاياكم لكي تأتي أوقات الفرج من عند الرب". ولنأتِ الآن - عزيزي القارئ - إلى الحقيقة الثالثة وهي:
3- جهل الحكمة البشرية
ويا له من أمر عجيب.. وزير لكنداكة ملكة الحبشة.. لا بد أنه على قدر كبير من الثقافة.. يمسك بسفر إشعياء ويقرأ فيه.. وسأله فيلبس المبشر: "ألعلك تفهم ما أنت تقرأ؟" فإذا به يجيب: ”كيف أفهم إن لم يرشدني أحد؟“ هنا تقف الحكمة البشرية عاجزة ما لم يأتِ النور الذي من فوق.. هنا يحتاج الخاطئ إلى أكثر من بصير.. إلى ما يسمَّى بالبصيرة.. هنا حاجته ليست إلى العقل والفهم البشري، بل إلى عمل روح الله القدوس في القلب والضمير. إن الإنسان الطبيعي كما تقول كلمة الله "لا يفهم ما لروح الله لأن عنده جهالة". إن أمور الخلاص تبدو في نظره طلاسم، وحقائق الإيمان كالأحاجي والألغاز.
يا روح الله القدوس، ليتك تفتح القلوب وتُنير الأذهان.
وهذا يأتي بنا - عزيزي القارئ - إلى الحقيقة الرابعة والأخيرة في حديث هذه المركبة الراكضة.. ويا لها من حقيقة مباركة ومجيدة، إنها
4- كفاية النعمة الإلهية
تقول كلمة الله: "ففتح فيلبس فاه وابتدأ من هذا الكتاب (أي من سفر إشعياء) فبشره بيسوع". نعم، بشّره بيسوع الذي قالت فيه النبوة: "وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا".. بشّره بحَمَلِ الله الذي جاء ليحمل خطية العالم .. عن البديل العظيم وذبيح الكفارة الأبدي. الذي جاء ليأخذ مكاننا أمام عدالة الله.. ولكي نأخذ نحن مكانه.. الذي قيل عنه أن الله جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه.
وإذا بالنور السماوي يشرق على وجه ذلك الخصي.. وإذا بماء الحياة يفيض في هذه النفس الظمآنة. وقال الخصي لفيلبس: "هنا ماء ماذا يمنع أن أعتمد. فقال فيلبس إن كنت تؤمن من كل قلبك يجوز". قال الخصي وزير خزائن الحبشة: ”أنا أؤمن أن يسوع المسيح هو ابن الله. فأمر أن تقف المركبة فنزلا كلاهما إلى الماء فيلبس والخصي فعمَّده. ولما صعدا من الماء خطف روح الرب فيلبس فلم يبصره الخصي أيضاً وذهب في طريقه فرحاً“.
أيها القارئ الكريم، من الممكن أن تكون هذه القصة قصتك أنت الآن. فأنت على موعد مع هذا المسيح الذي جاء لتكون للبشر حياة وليكون لهم أفضل. فإذا طلبته بكل قلبك في هذه اللحظة فإنه يسمعك من السماء. لقد وعد قائلاً: "من يُقْبِل إليّ لا أُخرجه خارجاً"؛ "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيليّ الأحمال وأنا أريحكم".
فهل تأتي إليه الآن؟