Voice of Preaching the Gospel

vopg

شباط February 2005

"لا، لا يمكنك أن تذهب الآن"، بهذه الكلمات المفعمة بالمحبة والاهتمام الكبيرين، واجهني صديقي فرناندو عندما أخبرته أنني مزمع على السفر إلى مدينة أخرى. قلت له ولماذا؟ قال: اجلس أريد أن أقول لك شيئاً هاماً. قلت: لكن عليَّ أن أعود إلى البيت ولا أريد أن أتأخر لأن القطار سوف يترك في الساعة الخامسة في الصباح الباكر. ولا أستطيع البقاء. فدعني أودّعك ومن ثمَّ أمضي إلى سبيلي. رفع نظره إليَّ وقال: بل لا يمكنك أن تذهب الآن. لا بل لا أقدر أن أتركك تذهب وحدك. فإن لديَّ شيئا هاما أودّ أن أقوله لك".

 

أحرجني بإصراره العنيد، فرضخت للأمر الواقع، وجلست. أجل جلست لكي أسمع ماذا يريد مني.

 كان هذا بعضاً ممَّا فاه به أخونا يوم أتى ليشاركَنا بالشيء الهام الذي أخبره به صاحبه، وعن قصة اختباره فيما بعد، الذي كان بمثابة قفزة جديدة غيَّرتْ مجرى حياته بالكلية. وما أن ابتدأ يحكي قصته حتى اغرورقت عيناه بالدموع ولم يعد يتمالك نفسه. ولمَّا عاد واستجمع أفكاره من جديد نظر إلينا نحن الحاضرين وقال: اعذروني يا إخوتي لأنني عندما أتحدث عمَّا عمله الله في حياتي تجيش العواطف في صدري، ولا تعود الكلمات تسعفني. حتى إنَّ راعي كنيستي يعلِّق دائما عليَّ ويقول: هل سوف تبكي هذه المرة أيضاً؟ فأعِدُه بأنني لن أفعل. لكنَّني وكما رأيتم فإنني لم أفِ بوعدي ليس لراعيَّ فقط بل لنفسي أيضاً. فالدموع تفيضُ مني حين أتذكر عملَ نعمة الله في حياتي. أجل أنا الذي وُلدت في فلسطين لعائلةٍ غير مسيحية. ونشأت وترعرعت في أجواء دينية محافظة جداً أثَّرتْ فيّ إلى حد أنني قرَّرت أن أدرس القرآن منذ صغري وأن أحفظ آياته وكل ما فيه في هذه السن المبكرة. فدرسته وحفظته أكثر من أي شيء آخر. وكان المعلم في المدرسة قد زرع فينا نحن الطلاب كراهيةً قوية للغرب وديانة الغرب لأن الغرب يريد تدميرنا والقضاء على ديانتنا. وصرتُ متعلقاً بأستاذي الذي صار بطلي ومثلي الأعلى. كان له مركز مرموق في المجتمع ورحت أتبعه إلى دُور العبادة لأسمع خُطَبَه وأستمتعَ بها. لكنَّني على الرغم من ذلك  فقد عشتُ في خوف دائم. لا بل تربيت على الخوف من الموت ومن نار جهنم التي وقودها الناس والحجارة. وصممتُ بيني وبين نفسي أنَّ أفضل شيءٍ يُمكنني فعله هو أن لا أُغضب هذا الإله الكبير الذي سوف يزجُّ بي في جهنم حيث العذاب الأليم. وعشت صراعاً كبيراً في داخلي، تتنازعني أفكار عن هذا الإله العظيم الذي يريدني أن أرضيه، وهذا الإله الكبير الجبَّار الذي يريدني أن أكره كل مَنْ لا ينتمي إلى ديني.

تخرَّجت من الثانوية العامة وتطلَّعتُ إلى الخروج من بلدي لمتابعة تحصيلي العلمي لأنَّ الفرص لم تكن متاحة لي لاستكمال دراستي فيه. فذهبت إلى الأردن. وهناك قدَّمت لعدة جامعات لكي أدرس الشريعة. لكن بسبب الاقتتال آنذاك في العام 1970 في الأردن، لم أستطع البقاء فذهبت إلى سوريا ومنها إلى لبنان. وهناك نفَذ كلُّ ما لديَّ من المال. واحتجْتُ وجُعْتُ. فأضافني إخوة من بلدي يدرسون في الجامعة العربية إلى أن وصلني مبلغ من أهلي. وعزمت على السفر إلى يوغوسلافيا عن طريق تركيا،  لكنَّ انتشار الكوليرا فيها أعادَني من حيث أتيت. وسافرت بعدها إلى القاهرة لكنَّ السلطات أرجعتني وأنا بعدُ في المطار بسبب كوني فلسطينياً. فعُدْتُ أدراجي إلى لبنان. وبينما أنا هناك تعرَّفت على طلاب لبنانيين كانوا يدرسون في إيطاليا ويودُّون السفر في الباخرة إلى هناك. فاصطحبوني معهم وكانوا يهتمُّون بي وباحتياجاتي وأنا في السفينة. ووصلنا إلى البندقية فتركتهم. وهناك نزلْت أنا في بلدٍ غريب، لا أفقه لغته ولا أعرف أحداً فيه. وبدأت أدرس، وخلال ثلاثة أشهر تعلَّمت اللغة الإيطالية وأتقنتها. وحصل - بينما كنتُ هناك - إضراب كبير شلَّ المدينة وكلّ الاتصالات فيها، ولم يعدْ يصلني معونة مادية من الأهل.  فمشيت في الشارع يوماً هائماً على وجهي وأنا محتاج وجائع لأنه لم يكن في جيبي فلس واحد. وصرت أصلّي وأقول: يا رب، لماذا أوصلتني إلى هذه الحالة؟ فأنا منذ صغري أصلي وأصوم وأحاول دائما أن أرضيك. فلماذا أنا على هذه الحال الآن؟ يئست واكتئبت جداً، وكان عمري عندها واحداً وعشرين سنة. وأصبحت مدمناً على الدخان. وقلت للرب يوماً: أفهمني إلى أين أنا ذاهب إذا متُّ؟ وفي اليوم الثاني يجيبني ويقول: ستذهب إلى جهنم لا محالة. وحياتي كانت مع الله دائمة التأرجح بين القبول يوماً والرفض يوماً آخر. فكفرت بالله وقلت له إنك إله عاجز. وتعلَّقت بنظريات الأرض من فلسفات وسياسة وكتب شيوعية. لكنَّها لم تزدني إلا يأسا وقنوطاً.

وفي أحد الأيام بينما كنت وصاحبي جالسين على درج إحدى الكنائس نندب حظنا العاثر قال لي: أتعلم أن هناك أناساً مسيحيين يدرّسون الإنجيل ويتكلمون دائما عن المسيح، يطعمون الجياع؟ قلت: لا.. قال لنذهب إلى هناك لنأكل. قلت هيا بنا. ولمّا وصلنا وجدنا واحدا منهم يتكلم عن يسوع المسيح بأنه إله المحبة والخلاص. عندها تذكَّرت أن أسماء الله الحسنى التسعة والتسعين ليس فيها صفة المحبة التي يتكلم عنها هذا الرجل. فلم أفهم عمَّن يتكلم. هل هو عيسى النبي؟ ثم كيف يمكن أن يتنازل ليخلِّصني؟ لم أهتم للموضوع كثيراً إذ كانت عصافير بطني تزقزق. وعندما وضعوا على الطاولة القهوة والبسكويت هجمت بشكل عَفَوي من شدة جوعي إلى الطاولة وبدأت آكل بغير وعي. وهذا ما فعلناه في الأسبوع الذي تلاه. وسمعت عندئذ نفس الكلام عن يسوع المسيح الذي أحبَّ الإنسان وكيف سفك دمه من أجله. فلم أفهم أيضاً. ولكنَّ تعصُّبي الديني السابق عاد ليطفو على السطح وبدأت أناقشهم وأعاندهم في كلِّ ما قالوه. دافعت عن كل ما هو غير مسيحي. ولكنَّ الإخوة هناك قابلوني بالمحبة واللطف والإحسان وعاملوني بكل رقة وحنان على الرغم من سوء أدبي معهم. وأتى الوقت الذي فيه تركني صاحبي وسافر إلى مدينة أخرى. وبقيتُ أنا وحدي. وتابعت تردُّدي على هذه الكنيسة، إذ إن شيئاً ما لم أفقه كنهه كان يشدُّني إلى أولئك الناس. وعلى الرغم من كُفري بالله، إلا أنني بقيت أذهب إليهم فازداد اهتمامُهم بي ودعوني لمرافقتهم يوماً إلى نزهة في حديقةٍ عامة وتناوُل الغذاء معهم، ففعلت. وراحوا بعد الغداء ينشدون الأغاني بفرح وحماس. وقلت في سرّي كيف يغنُّون وهم يعبدون الله؟ وسألت صديقي فرناندو السؤال الذي طالما حيّرني: كيف يمكن لهذا الإله الذي تتكلمون عنه أن يعطي خلاصاً مجانياً وبدون مقابل سوى التوبة والتسليم؟ هذا ينافي المنطق والعقل البشري يا أخي. ثم أين عدل الله تجاه الخطاة وأعمالهم المغضبة لوجهه تعالى؟ فأجابني فرناندو: فعلاً إن الله يا صديقي قادر أن يُهلك الأرض ومَن عليها لأن الجميع زاغوا وفسدوا وليس من يعمل صلاحا ليس  ولا واحد. لكن،  هناك إله دفع الثمن عنك لأنه يحبك. وعلى هذا الأساس يقبلك الله كإنسان تائب. وهنا انتهى الحديث ورجعنا من النزهة. أما كلماتُه فبقي أثرها عميقاً في داخلي. 

وبعد فترة قررت أن أترك. فقلت لصاحبي فرناندو سوف أترك المدينة لذا أود وداعك. فقال لي تعال إلى المركز لنتناول العشاء معاً. فقبلْتُ. ولما ذهبت رأيت أحد الرجال وهو أرمني الجنسية جالساً بينهم وكعادته كان يغطي وجهه بيديه الاثنتين. قلت لنفسي لا بدَّ أنه مريض أو مكتئب حتى أنني في كل مرة أراه على هذه الحال. كانت حال رفاقي المادية بسيطة، لكن ما قدموه لي في تلك الليلة لفت انتباهي إذ حضّروا طعاماً شهياً فيه من اللحم والخضار عن غير العادة. تناولت الطعام معهم ودون أن ينبسَ أحدُهم ببنت شَفَة. ولمَّا قلت لهم أريد أن أترك الآن لم يدَعوني أفعل ذلك. قلت: لكنني أريد أن أذهب لأجهز نفسي من أجل السفر غداً باكراً. قال لي فرناندو بحماس وعلى الرغم من ثأثأته: لا لا يمكنك الذهاب الآن. لقد عرفناك طويلاً وأصبحت جزءا من حياتنا وتعوَّدنا عليك ويحزُّ في نفسي أن أتركك تذهب وحيداً دون أن أعرض عليك إلهي ومخلصي الذي سيسير معك. اقبل الرب يسوع المسيح مخلصا لك. قلت: وضعتني الآن في مأزق يا صديقي. واستولى عليَّ شعورٌ بالخوف والرهبة. قلت في نفسي سأقوم. ولمَّا هممت بالوقوف إذا بي أشعر بيد خفيّة قوية تُرجعني إلى مكاني. عندها قلت: يا رب خلصني من هذه الورطة. قال صوت الله في داخلي: أنت تعبان. هيا خلص نفسك.  حاولت الوقوف مرة أخرى. إلا أن نفس اليد أعادتني بقوة إلى الكرسي. وقال الرب في داخلي: تصالح معي لأن ليس لك خيار الآن. قلت عندها هذه الكلمات من كل القلب: أقبلُ الرب يسوع مخلصا لي. فصرخت زوجة فرناندو من الفرح. أمَّا هو فنظر إليَّ بحنان وعانقني وقال: أهلاً وسهلا بك في عائلة المسيح. أنت الآن أخي ولنا أب واحد وهو أبي السماوي. الآن يمكنك أن تذهب حيث تشاء لأن الأب السماوي هو معك ولا يمكن أن يتركك.  شعرت في تلك اللحظة أنَّ حملاً كبيراً قد سقط عن كاهلي. ولمَّا نظرت إلى الشخص الأرمني وجدته يبكي من الفرح. وعلمت عندها أنه كان يرفع من أجلي صلاة مستمرة صامتة. وحدث هذا يوم الخامس عشر من شهر كانون الأول ديسمبر من عام ألف وتسعمائة واثنتين وسبعين.

ولمَّا ودعتهم وخرجت كان البرد قارساً في الخارج، ولم أكن أرتدي شيئاً دافئاً، لكننَّي لم أشعر بالبرد. ولأول مرة كنت كأنني أطير على السحاب ومشيت مسافة طويلة إلى بيتي ولم أتعب. ولأول مرة أيضاً نمت نوماً هادئاً كنوم الأطفال منذ وقت طويل. وقلت لله يومها: أشكرك لأنك منحتني هدفا لحياتي.

إن قصة اختباري طويلة يا إخوتي، وإنني لست نادماً ولا لِلحظة واحدة لأنَّني سلَّمت حياتي للمسيح الفادي لأنه هو المخلص، والمنقذ، والمحب، والصديق، الذي سار معي وما يزال في الطريق في كل يوم. نعم لم يتمكن صاحبي فرناندو من تركي دون أن يخبرني عنه ، ونعِْمَ ما فعَلَ .. فهل تحذون حذوه  يا إخوتي وتفعلون أنتم أيضاً للآخرين ما فعل هو من أجلي ؟ وهل تعلمون أنَّ نفوسَ أمتِنا وشعبنا هي مسؤوليتنا نحن كمسيحيين عرب!  فأرجوكم ألاَّ تدعوا الناسَ تترك مكانَها دون أن تخبروها عن هذا الفادي العجيب والمخلص الفريد.

المجموعة: شباط February 2005

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

317 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10474632