حزيران (يونيو) 2005
المتاجرة بالدين ليست اختراع حديث، بل هي قديمة قدم نشوء الأديان وتطوُّرها في عصورها التاريخية المختلفة، لأن الطبيعة الاستغلالية التي تكبّل الإنسان بالمادية هي طبيعة جشعة من شأنها أن تستفيد من كل فرصة في سبيل تحقيق مطامعها.
والدارس لأسفار الكتاب المقدس، مثلاً، يكتشف بكل سهولة، كيف أن خالقي الأصنام التي كان يعبدها الشعب، وجعلوا منها آلهة في هياكلهم وبيوتهم، استغلوا النزعة الدينية عند أبناء الشعب، فتاجروا بهذه الآلهة الصماء، البكماء والمتحجّرة التي لا تضرّ ولا تنفع. لقد أوهموا الناس بفاعلية تلك الآلهة التي يمكنهم أن يروها ويلمسوها وينصبوها في معابدهم، لتمثل لهم القوى الغيبية، وكأن هذه الآلهة حيّة قادرة على اجتراح العجائب وعظائم الأمور. ولعل قصة إيليا مع أنبياء البعل أكبر برهان على هذه ”العملية“ التي هيمنت على عقول الناس، والتي كانت تلقي الرعب في قلوبهم المتعلقة بهذه العبادات. ومن ناحية أخرى نجد أن كهان هذه المعابد، وأنبياءها الذين أحاطوا أنفسهم بحالة من "القدسية" بادّعائهم بأنهم وسطاء بين تلك الآلهة والناس، قد استخدموا جميع الوسائل في سبيل جمع الثروات وممارسة السيطرة الدينية والسياسية على عامة الشعب. ويتفاقم خطر هذه الحركة عندما يتم الاتفاق بين أصحاب النفوذ الديني والقوى الحاكمة فيعيش الشعب في أغلال عبودية الخوف من المجهول ومظالم الحكم الدكتاتوري. وهكذا نجد أن أغلبية الكهان في تلك المعابد الوثنية قد تمتعوا لفترة طويلة بالمتاجرة بالدين بتأثير الخوف الذي شاع بين الناس، وإيمانهم بأن قدرهم معلّق برضى هؤلاء الكهان وأنبياء المعابد.
وعندما نتأمل في العهد الجديد، وفي المجتمع اليهودي في زمن المسيح، نجد أن المتاجرة بالدين قد اتخذت أشكالاً جديدة وإن ظلت تستهدف نفس الأغراض في الاستغلال الشنيع الذي شاع في العصور السالفة. فمع أن الشعب اليهودي، في العهد الإنجيلي، كان يؤمن بإله واحدٍ، ومع أن رؤساء الكهنة والفريسيين والكتبة كانوا يشددون على تطبيق شريعة موسى، فإنهم مارسوا مظاهر الشريعة ولم ينهلوا من روحها. ولعلَّ قصة المسيح عندما دخل إلى الهيكل وقلب موائد الصيارفة، وحرر الطيور الحبيسة من أقفاصها، دليل على أسلوب المتاجرة بالدين الذي راج في هذه الفترة التاريخية. ويحدثنا التاريخ أن هذه السوق في ساحة الهيكل كانت شركة عامة بين رؤساء الكهنة والصيارفة وباعة الحمام والأغنام؛ أي أن رؤساء الكهنة كانوا يقبضون نسبة مئوية من كل ما يباع ويشترى في ساحة الهيكل. من هنا ثار غضب المسيح، واحتدَّت روحه في داخله، وهتف بأعلى صوته بأنهم جعلوا الهيكل مغارة لصوص بدل أن يكون بيت الصلاة، "لأن بيتي هو بيت الصلاة يُدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص"؛ ذلك لأن المتاجرة في الهيكل لم تكن شرعية أولاً، وثانياً، لأنها كانت تقوم على استغلال المشترين ولا سيما الفقراء منهم، وثالثاً، لأن رؤساء الكهنة كانوا متورّطين في هذه المؤامرة بدلاً من أن يقوموا بواجباتهم الدينية تجاه الشعب القادم ليعبد الله في الهيكل.
وفي عصرنا الحاضر تفاقم شرّ المتاجرة بالدين. ومظاهر هذه المتاجرة نجدها أولاً، في المناسبات الدينية كعيد الميلاد، وعيد الفصح، لقد غلبت مظاهر الأعياد على صاحب العيد بالذات، وتمجّد "سانتا كلوز"، والبيض الملّون، والأرانب المنفوشة أكثر مما تمجّد المولود في مذود البقر، أو القائم منتصراً من القبر. إن المتاجر على اختلاف أنواعها تركّز في هذه المناسبات على بضائعها. وبرامج التلفزيونات بشكل عام تعرض حلقاتها بصورة تشمئز منها النفس؛ وُتنفَق الأموال بالملايين لشراء الهدايا التي بذلت الشركات التي صنعتها جهوداً جبارة لإغراء الجماهير لابتياعها. هذه المناسبات الدينية قد تحوّلت إلى مصادر ثراء، أما صاحب العيد، فأضحى منبوذاً، مطروداً من المدارس، والمؤسسات، وغدا اسمه مثار جدل، ورفضٍ بل وخزيٍ.
ثم ثانياً، نجد أن مظاهر المتاجرة هذه قد تسرّبت إلى عددٍ من البرامج الدينية التي استغل القائمون عليها قلوب الجماهير المفتوحة للعمل على تطوير الخدمة، ونشر البشارة، فعمد هؤلاء القائمون، حاملو بشارة الخلاص، إلى التلاعب بعواطف المؤمنين، واستنزفوا منهم الأموال ليعيشوا حياة مترفة في فيللات أشبه بالقصور، وفي شراء "الكاديلاكات"، وجعلوا من أنفسهم ملوكاً صغاراً أحاطوا أنفسهم بالحراس، وأخذوا ينتقلون من بلدٍ لآخر بطائراتهم الخاصة، ولا ينزلون إلاّ بأفخم الفنادق. كل ذلك باسم الدين والمتاجرة بمشاعر الشعب. وقلَّ أن نجد بين هؤلاء إلاّ فئة ضئيلة من المتمسكين بقيم الكتاب المقدس، والذين عنوا عناية فائقة بالمحافظة على الأمانة لكي تظل شهادتهم المسيحية ناصعة لا يشوبها غبار. يا ليت الذين خضعوا لبهرجة الدنيا، وانساقوا وراء أهوائهم، واستعبدهم حب المال أن يتذكروا كيف عاش المسيح، وكيف تمثّل به التلاميذ، بل أن يذكروا مئات الآلاف من المبشرين والوعاظ الذين يعيشون في العالم الثالث وهم يقاسون من شظف العيش، ومن الأمراض والاضطهادات ومشاق السفر في أثناء خدماتهم.
وأخيراً نجد مظاهر المتاجرة بالدين في استغلال الشعارات المسيحية. فمنذ يومين فقط كنت أشاهد الأخبار على جهاز التلفزيون فراعني أن أرى كيف أن مؤسسات الثياب ومعارض الموديلات الحديثة قد اتجهت الآن اتجاها مخالفاً لكل الاتجاهات السابقة. فقد ابتدعت هذه المؤسسات ثياباً نسائية ورجالية طبعت عليها شعارات مسيحية مثل "يسوع يخلص"، "المسيح هو الطريق"، "أنا هو القيامة" وغيرها من الشعارات والرموز المسيحية. ومن المؤسف حقاً أن معظم هذه المؤسسات هي ليست مؤسسات مسيحية بل مؤسسات تجارية التي اكتشفت أن هناك سوقاً رائجة بين الجماهير لمثل هذه الثياب المتميزة بهذه الشعارات. ومن المحزن أيضاً أن بعض المؤسسات المسيحية قد نحت نحو هذه الشركات، وسارت في إثر خطاها من غير أن تتوقف لحظة لتفكّر في النتائج المترتبة عن مثل هذا التصّرف. صحيح أن هذه الشعارات ليست وليدة اليوم، ولكن المؤلم أنها قد انحرفت عن غايتها، وأصبحت هدفاً تجارياً أخضعت فيه الدين لأغراضها الماديّة. لماذا لم تقدم هذه المؤسسات على صنع مثل هذه الثياب قبل اليوم؟ الجواب الواضح والبسيط، لأنه لم يكن لها سوق رائجة حتى الآن. إذاً، الغرض الحقيقي من هذه العملية هو غرض تجاري وليس غرضاً روحياً. إن إخضاع الدين للمادية هو أخطر ما يتعرض له الدين من إساءة. فالعملية كلها تقوم على عملية الربح والخسارة.
لكم كنت أودّ لو أن هذه الحركة تستهدف الشهادة لاسم المسيح وتحمل رسالة مجردة من المطامع الذاتية. ولكن الحقيقة هي غير ذلك؛ فالمجتمع قد أصبح خاضعاً لقوى شريرة تتخذ أشكالاً مختلفة لمقاومة كلمة الإنجيل. إنها تتزيّا بالمظاهر الدينية، وترتدي أثواب التقوى لتخفي وراءها مفاسدها ونزواتها ورغباتها الشيطانية. إنها أشبه ما يكون بالقبور المبيضة التي تثير الدهشة والعجب، ولكنها في داخلها كل عفن، ونتن، ودودٍ، وكل شيء كريه.
وعندما يتحوّل الدين إلى تجارة، وتنساق المؤسسات الدينية في مهاوي المادية، ويبرع رجال الدين في استغلال طيبة المؤمنين ليعيشوا حياة البذخ والتبذير التي لا يرضى عنها الله، يفقد الدين تأثيره على المجتمع، ويطرأ عليه الضعف، وتنحل القيم الروحية ليصبح المجتمع مماثلاً لمجتمع سدوم وعمورة.
ليَقِنا الله شرّ المتاجرين بالدين.