أذار March 2005
تحتل هذه العبارة الصغيرة المعبرة، أعظم مكانة بين الكلمات السبع التي نطق بها المسيح – له المجد – فوق الصليب، بل بين أقوال الوحي المدونة في كتاب الله جميعاً.
ما أظن أن هناك عبارة كان مصير الجنس البشري ولا يزال يتعلق بها مثل هذه العبارة.
عبارة لم يستطيع أن ينطق بها نبي أو رسول. لا من قبله ولا من بعده!!
جاء أنبياء كثيرون. فيهم من صنع المعجزات وفيهم من أقام الأموات لكن لم يستطيع واحد منهم أن يقول "قد أُكمل".
بل إن المسيح نفسه، لو جاء من السماء إلى الأرض مليون مرة.. وقدّم في حياته أعظم ما يمكن أن تقدمه شخصية في الوجود.. لو أنه نطق بأجل وأورع الكلمات، وصنع آلاف الآيات والمعجزات، لكنه مضى دون أن ينطق بهذه الكلمة لما أفادنا بشيء يستحق الذكر!
لكم حاول عدو البشر أن يباعد بينه وبين الصليب.. لكي لا تسمع السماء أو الأرض هذه العبارة! لكم كان بودّه أن تشهد الأرض مسيحاً، ينطق بأروع الكلمات، ويصنع آلاف المعجزات، دون أن يمضي إلى الصليب، ليكفّر بذبيحة جسده المتفرد الطاهر خطايا البشرية.. ويسدد بعطائه السخي القادر مطاليب العدالة الإلهية ويدرأ بسلطانه القاهر عقاب الدينونة الأبدية. ومع أن البشير يوحنا هو التلميذ الوحيد الذي يسجل لنا هذه العبارة في إنجيله المبارك.. بيد أن البشيرين الآخرين يشيرون إليها بالقول: "وصرخ يسوع بصوت عظيم وأسلم الروح". أجل.. صرخ يسوع بصوت عظيم.. لكي تسمعه السماء والأرض.. البشر والملائكة والشياطين.. وعلى رأسهم الشيطان الأكبر المشتكي على بني الإنسان، فالعبارة تعنيهم جميعاً "قد أُكمل".
كانت صرخته العظيمة وهو ينطق بها هي صرخة القائد الظافر.. وقد ظفر وانتصر في أعظم معاركه الحربية.. بل صرخة الفادي والوسيط القادر وقد كسب أكبر قضية!!
بعد ذلك.. نكّس يسوع الرأس، ثم أسلم الروح.. إذ لم تعد القضية الأزلية في حاجة إلى مزيد!!
فما الذي كان يعنيه ترى ذلك الذبيح الأعظم بهذه العبارة؟ ما الذي كان يقصده بالقول "قد أُكمل"؟
الجواب، عزيزي القارئ، فيما أرى يتناول أموراً ثلاثة:
أولاً: مضامين النبوءات الكتابية
إن نبوءات الكتاب المقدس ذكرت بتفاصيل دقيقة كل ما يتعلّق بمجيء ذلك الفادي الأوحد لأجل فداء البشرية، الذي أبطل بتجسده وصلبه وموته وقيامته جميع ذبائح العهد القديم الرمزية.
فلو لم يأتِ المسيح في صورة إنسان ليموت على الصليب لأجل فداء الإنسان، من كان سيجد تفسيراً لمثل هذه النبوءات التي سبقت مجيئه بمئات السنين.
"ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل" (إشعياء 14:7).
"لأنه يولد لنا ولد ونُعطى ابناً وتكون الرياسة على كتفه. ويُدعى اسمه عجيباً مشيراً. إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام" (أشعياء 6:9).
"بذبيحة وتقدمة لم تُسَرّ، أذنيَّ فتحت. محرقة وذبيحة خطية لم تطلب. حينئذ قلت: هئنذا جئت. بدرج الكتاب مكتوب عني أن أفعل مشيئتك يا إلهي سررت" (مزمور 6:40-8).
"لذلك عند دخوله إلى العالم يقول: ذبيحة وقرباناً لم تُرِد. ولكن هيّأت لي جسداً" (عبرانيين 5:10).
"ثقبوا يديّ ورجليّ. أُحصي كلّ عظامي. وهم ينظرون ويتفرّسون فيّ. يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون" (مزمور 16:22-18).
"وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه، وبحبره شفينا. كلنا كغنم ضللنا مِلنا كل واحد إلى طريقه والرب وضع عليه إثم جميعنا" (إشعيا 5:53و6).
"... فوزنوا أجرتي ثلاثين من الفضة. فقال لي الرب: ألقها إلى الفخاري، الثمن الكريم الذي ثمّنوني به" (زكريا 12:11-13).
"وأُفيض على بيت داود وعلى سكان أورشليم روح النعمة والتضرعات، فينظرون إليّ، الذي طعنوه" (زكريا 10:12).
أما وقد جاء المسيح إنساناً ويمضي إلى الصليب ليموت لأجل فداء البشرية متمماً كل نبوات الكتاب عنه.. فقد لاق به، وحقّ له وحده أن يقول: "قد أُكمل".
ثانياً: مطاليب العدالة الإلهية
إن ما أكمله المسيح فوق الصليب ليس "مضامين النبوات الكتابية" فقط بل أيضاً مطاليب العدالة الإلهية.
إن الذين يتصوّرون أن غفران الله يمكن أن يكون على حساب عدالته هم واهمون.. فالله الرحيم هو في نفس الوقت ديان عادل.. وعدالته تأبى عليه إلا أن يقتصّ من إثم الإنسان، "لأن أجرة الخطية هي موت.."، في الوقت الذي يأبى عليه حنانه وحبه وغفرانه إلا أن يغفر للإنسان التائب ويصفح عنه..
فمن أين تجد هذه المعادلة الصعبة حلاً لها إلا في الصليب! الصليب هو المكان الوحيد الذي تلاقى فيه عدل الله مع رحمته، وعقابه مع صفحه وغفرانه. ذلك هو المبدأ الهام الذي حرص المولى أن يربي عليه ضمير الإنسان. منذ سقط في جنة عدن. لا بد من البديل الذي يسترضي عدالة الله والذي تتوافر فيه شروط الفدية الإلهية. لأنه "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة"، "فأرى الدم وأعبر عنكم".
تلك الفدية الكريمة، عناها الوحي المقدس بهذا الحديث النبوي الذي يسجله لنا الأصحاح الثالث والثلاثون من سفر أيوب فيقول عن المولى تبارك وتعالى: "إن وُجد عنده مُرسَلٌ، وسيطٌ واحد من ألف ليعلن للإنسان استقامته [أي ليرد اعتبار الإنسان أمام الله]، يترأّف عليه ويقول: أطلقه عن الهبوط إلى الحفرة [حفرة الجحيم والعذاب الأبدي]، قد وجدتُ فديةً".
فماذا تكون النتيجة يا ترى بالنسبة لهذا الأثيم المفدي؟ "يصير لحمه أغضّ من لحم الصبي ويعود إلى أيام شبابه. يصلي إلى الله فيرضى عنه. ويعاين وجهه بهتاف. يغنّي بين الناس فيقول: قد أخطأت وعوَّجت المستقيم ولم أُجازَ عليه. فدى نفسي من العبور إلى الحفرة، فترى حياتي النور" (أيوب 23:33-28).
ثالثاً: مقومات خلاص البشرية
أجل، قد أُكملت هذه المقوّمات جميعاً ولم يكن لها بغير الصليب أن تُكمل. ولعل أروع ما نقرأه بهذا الشأن هو كلام الترنيمة الجديدة المذكورة في سفر الرؤيا أصحاح 5: ”مستحق أنت أن تأخذ السفر وتفتح ختومه لأنك ذُبحت واشتريتنا لله بدمك من كل قبيلة ولسان وشعب وأمة“.
تلك، عزيزي القارئ، قصة الإتمام الأعظم لخلاص البشرية كما صوَّرَتها ريشة الوحي الإلهي والتي تتردّد في سمائها صرخة الفادي المدوية، حين قال فوق الصليب "قد أكمل".
فهل انتفعت بهذا الإتمام الأعظم؟ وهل تمتعت بهذا الفداء الأكرم؟ سؤال ليته يلقي منك ما يستحقه من جواب.