أذار March 2005
القيامة هي فعل حياة.
ولست هنا أعني أيّ قيامة، إنما أُشير إلى قيامة كل قيامة، قيامة الرب يسوع المسيح من بين الأموات في اليوم الثالث من صلبه ودفنه. ولا ريب أن هناك فئات متعددة من أصحاب الأديان الأخرى التي ترفض عقيدة قيامة المسيح، وحجتهم في ذلك أن الإله المعبود لا يمكن أن يموت في الدرجة الأولى، وبالتالي فإنه لم يُدفن، ولم تحدث معجزة القيامة. والبعض الآخر يؤكدون على نبوّة المسيح، ويدّعون بأن الله قد رفعه إليه فأخفق أعداؤه في القبض عليه، والذي صُلب لم يكن سوى شبيه له.
ولكن المفهوم المسيحي للقيامة يختلف كلياً عن جميع هذه النظرات، لأن قيامة المسيح ترتبط بمولده، وصلبه، وخطة الخلاص التي أعدها الله منذ الأزل. وأود في هذه الصفحات القلائل أن أجيب عن بعض الاعتراضات التي أثارتها الطوائف التي لا تؤمن بصلب المسيح وقيامته في مجيئه الأوّل.
إن الاعتراض الأول يدور حول ألوهية المسيح، إذ كيف يمكن للإله أن يموت؟
السؤال وجيه، فاللاهوت لا يموت، ولكن هؤلاء نسوا أن المسيح قد تجسّد آخذاً صورة عبد ليكون مجرَّباً في كل شيءٍ ما عدا الخطيئة. فالمسيح من حيث هو ابن مريم كان ذات طبيعة بشرية متميَّزة بالكمال، وقد تنازل عن جميع أمجاده بفضل محبته الفائقة للإنسان لينقذه من الهلاك الأبدي. هذا التنازل كان تنازلاً اختيارياً. لم يكن لأحد عليه أي سلطان، فهو وحده القادر أن يبذل نفسه في أعظم عملية فداء تاريخية، كما هو وحده كان قادراً على رفض هذه المهمة الخطيرة. إن خطيئة الإنسان كانت أعظم من أن تُفتدى بذبائح حيوانية لأنها كانت أبشع صورة للتعدي على شريعة الله، بل على سلطانه. لهذا، فإن عملية الفداء كانت تتطلب أكثر من الكفارات البشرية والأعمال التي يحاول الإنسان أن يكفر فيها عن ذنوبه. لا تستطيع أعمال الإنسان أو كفارته البشرية أن تحظى برضى الله. لأن أعمال برّنا كخرق بالية في نظر الله، وتوبتنا لا تغني عن حكم الدينونة. فالقاتل التائب لا ينجو من حكم القضاء في المحاكم البشرية لأن عليه أن يدفع ثمن جريمته على الرغم من توبته. لهذا إذ تجسَّد المسيح، تحمّل عنا كابن الإنسان قضاء الله ودينونته ليحررنا من الهلاك الأبدي. لقد دفع الثمن، باختياره، وليس رغماً عنه، ونجونا نحن الذين آمنا به واختبرنا خلاصه من الدينونة لأنه لا دينونة على الذين هم في المسيح.
ولكن موت المسيح من غير قيامة لا يجدي نفعاً. في مثل هذه الحالة فإن صلبه يكون مماثلاً لصلب اللصين اللذَين عُلقاً إلى جواره على هضبة الجلجثة. هذان اللصان لم يقوما من بين الأموات في اليوم الثالث، ولا علاقة لصلبهما بخلاص الإنسان. يخبرنا الكتاب المقدس أن أحدهما آمن بالمسيح ووعده الرب يسوع أن يكون معه في الفردوس. ولكن هذا اللص المؤمن ظل دفيناً في قبره، وسيظل إلى يوم القيامة في مجيء المسيح الثاني.
ولكن المسيح قام في اليوم الثالث لأنه لم يكن نبياً فقط بل كان كلمة الله المعبِّر عن فكر الآب، وبفضل طبيعته اللاهوتية، انتصر على الموت، وكسر شوكته. فإن كانت طبيعته البشرية قد قاست تلك الآلام الجسدية الرهيبة، وإن كان قد تعرَّض للموت وأسلم الروح فإن الموت قد عجز عن إبقائه رهين أسره لأنه بفضل لاهوته استطاع أن يحطِّم أصفاد المنية، ويقوم غالباً، تماماً كما وعد تلاميذه وكما أشارت إليه النبوءات في العهد القديم.
أما بما يتعلق بالرأي القائل بأن المصلوب لم يكن المسيح بل من هو شبيه له فإنه يفتقر إلى الإثبات المنطقي والأدلة التاريخية على نقيض ما نراه من توافر المصادر الوثنية من رومانية، ويونانية، والمصادر المسيحيّة، واليهودية، وكلها تؤكد أن المصلوب لم يكن سوى المسيح بالذات. وليس على القارئ سوى دراسة كتاب هل صُلب المسيح حقاً؟ لمؤلفه فارس القيرواني ليطّلع على الأدلة الباهرة التي استطاع المؤلف أن يجمعها، ويدرسها، ويحللها بأسلوب موضوعي مجرَّد من كلّ تحيُّز. والواقع أن المسيح الذي كانت لديه القدرة على الدفاع عن نفسه بكلمة منه كان في إمكانه أن يقضي على جميع أعدائه. فها هو في الليلة التي أُسلم فيها قال لمهاجميه: لو أردت لطلبت من أبي أن يرسل إليَّ اثني عشر جيشاً من الملائكة. ولكن ذلك لم يكن غرض المسيح من مجيئه إلى العالم، إنما هذا المجيء كان لتنفيذ خطة الفداء. لهذا لم يكن هناك حاجة إلى شبيه ليُصْلَب عنه لأن الشبيه لا يفي بمطاليب الله، ولا يمكن أن يتحمَّل عبء القضاء الإلهي. كما أن الشبيه يفتقر إلى قوة القيامة.
لقد حمل تلاميذ المسيح مثل هذه الحقيقة التاريخية للعالم أجمع، وكرزوا بها لكل الأمم والشعوب، وأكَّدوا على قيامة المسيح لأنهم كانوا شهود عيان حيث التقوا به بعد قيامته مدة أربعين يوماً، وفيها تناول النبوءات التي كان قد أشار إليها سابقاً وأراهم كيف أنها تحققت في تجسده، وصلبه، وقيامته، فانطلقوا يجوبون مشارق الأرض ومغاربها حاملين بشرى الخلاص لكل من يؤمن به. لم تكن رسالة المسيح محلية، أو لفئة دون فئة بل للعالم أجمع. وهي ليست رسالة عقيدة بل رسالة خلاص ترتبط بالإله الحي الرب يسوع المسيح.
والواقع أن المسيح قد أظهر قوته وسلطانه على الموت قبل صلبه في أكثر من موضع، عندما أعاد إلى الحياة بقوته الشخصية ابن أرملة بلدة نايين، وابنة يايرُس، وأيضاً صديقه لعازر. ربما يحسن هنا أن نتوقَّف للحظة لنتأمّل بقصة لعازر الذي كان مقيماً في بيت عنيا:
استدعت أختا لعازر يسوع في أثناء مرض أخيهما، ولكن المسيح تباطأ عن المجيء لأنه كان عالماً أن مرض لعازر لم يكن للموت بل لتمجيد الله وابنه (يوحنا 4:11). وعندما وصل إلى "بيت عنيا" كان لعازر قد مات ودُفن في القبر منذ أربعة أيام. فجاءت مرثا أخت لعازر إليه وقالت بصوت فيه نبرة عتاب: لو كنت هنا لَمَا مات أخي (ع 21). فماذا كان ردّ المسيح؟ "أنا هو القيامة والحياة من آمن بي ولو مات فسيحيا" (ع 25). لم يكن كلام المسيح آنئذ للتعزية، بل كان مقدمة للمعجزة التي أجراها بعد لحظات. ولقد تساءل اليهود المتجمهرين حوله حينئذ ألم يقدر هذا الذي فتح عيني الأعمى أن يرد الموت عن لعازر؟ لم يجب يسوع عن تساؤلهم، بل اقترب من القبر، وكان كهفاً ذا باب مسدود بحجر كبير، وطلب من بعض الحاضرين أن يزيحوا الحجر، ثم نادى بصوت عال: "لعازر أخرج". كان أمراً مباشراً هزَّ أعماق الهاوية، صدر عن إله قادر أن يكبِّل قوى الموت ويحرِّر من يشاء من قبضته وأغلاله، وهكذا خرج الميت بكامل أكفانه وأربطته المشبَّعة بالطيب وفقاً للتقاليد اليهودية، لم يكن قادراً على المشي بحرية بسبب الأربطة التي كانت تشدّ يديه ورجليه. فأمرهم يسوع أن يحلّوه من قيوده التي كانت آخر رمز من رموز الموت.
إن المسيح في هذه المعجزة قد برهن عن أنه هو إله الحياة وأن الموت ليس سوى أداة طيِّعة بين يديه. وأكثر من ذلك فقد أعلن بصريح العبارة أنه هو القيامة والحياة وليس للموت عليه أي سلطان.
ولم تكن قيامة المسيح، إذاً، إلا أسمى تعبير على الغلبة النهائية التي تجلت على الصليب. لقد خيِّل لأعدائه، أو حتى لبعض تلاميذه أن دعوة هذا المسيّا" قد انتهت بموته لأنهم بغبائهم لم يدركوا ما معنى مجيئه ولا الغرض من تجسُّده، بل لم يفهموا حقيقة لاهوته على الرغم من كل إيضاحاته ومعجزاته التي صنعها أمام أعينهم. ولكن بعد قيامته من بين الأموات شهدوا حقيقة نصرته على الموت.
يشير سفر الرؤيا إلى حقيقة أخرى يجب أن تملأ قلوب المؤمنين بالفرح الحقيقي واليقين بالخلود. يقول العدد 14 من الأصحاح 20 عن مصير الموت: "وطُرح الموت والهاوية في بحيرة النار". أي لم يعد هناك موت تماماً كما كان الأمر قبل سقوط الإنسان في خطية العصيان. هذا رجوع إلى عهد الطهارة والقداسة والخلود. العودة الأبدية إلى الحياة المثلى. وهكذا، لولا القيامة لم ينجُ مخلوق من دينونة الله.