أيار May 2005
منذ وجود الإنسان على هذا الكوكب، برز الإيمان كمعضلة وما زال قائماً كذلك بالنسبة لكثيرين. فقد شكل تحدياً عظيماً لتوجّهات بني البشر نحو التيقن من القضايا التي يطرحها والالتزام بالايجابيات التي يتطلبها بنفس القوة التي تحكم الامتناع عن السلبيات التي يرفضها.
وإن يكن الكثير من الناس متفقين شكلاً في ادعاء الإيمان، ولكنهم مختلفون موضوعاً في اعتباراته ومفاعيله، في آثاره ونتائجه التي تدمغ حياة الفرد بصفات الإيمان الحقيقي أو الوهمي وما بينهما من درجات ومقاربات. ولكن الإيمان في جوهره يبقى ثابتاً لا يتغير مهما اختلفت اعتبارات الناس بشأنه ومهما تباينت تصوُّراتهم لمفهومه بشرط أن يكون موجوداً فعلاً بكامل شروطه ومقتضياته كما سنّه وثبّته الله في كماله الأدبي والأخلاقي.
الإيمان من الناحية النظرية كما يحدده الإنجيل "هو الثقة بما يُرجى والإيقان بأمور لا تُرى" (عبرانيين 1:11). فهو لا يعتمد على المرئيات والمحسوسات، ولا يقارَن بالأشياء المعتادة الحدوث والتي تحكمها نواميس الطبيعة كالمسافة والزمن، ولا قوانين الجاذبية، والقوى المحركة، والحركات الاهتزازية والدورانية، وغير ذلك.. ولا يعتمد على الأمور التي يحكمها قانون الصدفة أو نظرية النسبية. فكل هذه خارجة عن مفهوم الإيمان لأن الإيمان هو مفهوم محدّد بالذات، متمثل في مسلّمات يعرفها المؤمن بروحه ويقدّرها حق قدرها، وإن كان البعض كالفيلسوف قد لخّصها بثلاث وهي: وجود الله، وخلود الروح، والحرية الأدبية. إلا أن الإيمان بمفهومه الكامل هو الخضوع لسيادة الله، وإدراك الأمور الإلهية وإجلالها، والالتزام بأوامرها ونواهيها بكل مكوّنات النفس البشرية وقواها الحيوية.
أما من الناحية العملية فالإيمان هو توجّه كلي التصميم نحو ممارسات وسلوكيات تضع حياة المؤمن الحقيقي ضمن إطار من الكمال الأدبي الذي يقتضيه الإيمان متجاوزاً حرفية الوصايا انطلاقاً إلى روحانيتها وجوهرها كما صوّرها المسيح له المجد في الموعظة على الجبل التي علّم فيها بضرورة تطبيق الوصايا الإلهية انطلاقاً من الإدراك العميق الواعي لحقيقة الالتزام بالأمور الإلهية نظراً لقيمتها العظمى.
"سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل ومن قتل يكون مستوجب الحكم. أما أنا فأقول لكم إن من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم. ومن قال لأخيه رقا يكون مستوجب المجمع. ومن قال يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم". وما أكثر الذين يدّعون الإيمان، ويغضبون على الآخرين باطلاً، والذين يحقِّرون أو يصفون الآخرين بالأوصاف المهينة دون أن يرفّ لهم جفن!!
"سمعتم أنه قيل للقدماء لا تزنِ. وأما أنا فأقول لكم إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه". وعلى هذا الأساس فما أكثر الذين يزنون دون أن يعاشروا امرأة أخرى، واللواتي يزنين دون أن يعاشرن رجلاً آخر؟
"سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضاً ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً". وكم هنالك من مدّعين للإيمان لا يرفضون التساهل مع أخطاء الآخرين فقط بل يعتدون على الغير مادياً ومعنوياً دون أن يسيء الغير إليهم.
"سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم أحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم". فهل هذه الأقوال الجليلة مطبقة في حياة الكثيرين؟
تلك هي معضلة الإيمان فإنها لا تتركز في الأشياء التي يحملها المرء في ذهنه أو يفكر بها في عقله... وليس الإيمان علماً أو معرفة فهو ليس مشترطاً للمتفقهين وعلماء اللاهوت ولكنه متاح لجميع الناس عالمهم وجاهلهم، غنيهم وفقيرهم، كبيرهم وصغيرهم...
أما أشكال ومسميات الإيمان التي يلاحظها فهي:
1- الإيمان النقلي السماعي
وهو ترديد ما يقوله الآخرون والتحدُّث به كما يتحدثون دون مرتكز حقيقي لما يؤمنون به.. إن صحّ اعتبار ذلك إيماناً، كما يقول البعض: "آمن بالحجر تبرأ". فالبعض يؤمنون بأسماء، وأقوال، وخرافات، ويتناقلون قصصاً وحوادث لا أساس لها من الصحة، ولكنك حينما تضعهم على المحك تجد أنهم لا يفقهون من الإيمان شيئاً.
2- الإيمان التقليدي الموروث
فالذين يأخذون الإيمان عن آبائهم وأجدادهم لا يتفحصونه ولا يتمعنون به. ولا بأس إذا كان الأسلاف أصحاب إيمان حقيقي.. ولكن الخطر كل الخطر يكمن في تقليد أسلاف ذوي بدعة أو انحراف عن الحق الإلهي فيصبح ذلك التقليد فخاً قاتلاً.
3- الإيمان الشكلي المظهري
وأصحاب هذا النوع من الإيمان هم الذين يعيشون بالمظاهر الخارجية فيحضرون الكنيسة، ويشتركون في الشعائر، كما يُظهرون غيرةً على العقيدة، والأماكن، والمسمّيات، ولكنهم عند الإيجاب لا يعفّون عن كريهة، ولا يمتنعون عن رذيلة إن كان بكذب، أو خداع، أو رياء، أو افتراء... بما في ذلك الأنانية، والطمع، والحسد، والبغض. كما كان رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيون في أيام المسيح يدعون غيرتهم على الناموس وتقديسهم للهيكل وحفظهم للسبت والدفاع عن هذه الأشياء التي بحجتها اضطهدوا المسيح البار وقاوموا معجزاته الباهرة وصلبوه ثم حاولوا أن يطمسوا حتى أمر قيامته المجيدة.. كل هذا وهم يدّعون الإيمان. وقد نطق عليهم له المجد بالويلات السبع المدونة في إنجيل متى 23.
4- الإيمان الحقيقي الاختباري
وهو بأن يختبر الإنسان قوة نعمة الله المخلّصة بعمل الفداء الذي أتمّه يسوع على الصليب. ذلك الإيمان يملأ القلب ويشغل كامل مساحة النفس. والمؤمن الحقيقي يثق بكل أقوال الله، ويعتمد عليه في كل أمر، ويطيعه في كل صغيرة وكبيرة.. يبتعد عن الأشياء التي تغيظ وجهه، ويعمل الأشياء التي ترضيه. فيعيش الإيمان بعمق في داخل قلبه، لا يفعل البر طمعاً في ثواب، ولا يمتنع عن الشر خوفاً من عقاب، بل يعمل كل ما يقتضيه الإيمان من أعمال الخير والبر والصلاح، مسلماً أموره بيد القدير، ومنتظراً الرجاء الأسمى والحياة الأبدية.
قارئي الكريم، إن الإيمان الحقيقي ليس حكراً على أناس خصهم الله بالذات، بل هو متاح لجميع الذين يصممون أن يكون لهم هذا الإيمان لأن الله يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون.