تشرين الأول (أكتوبر) 2005
في حديث سابق كنا قد بحثنا في المصطلحات المسيحية التي تكون مادة مثار جدلٍ أو استغراب لدى غير المسيحيين. فنحن لدينا مصطلحات قوية مرتبطة بثوابت العقيدة المسيحية لا يمكن إغفالها أو التنازل عنها، ومنها: التجسّد، والصلب، والثالوث الأقدس، وما يُشار به إلى المسيح بابن الله، ومصطلحات أخرى سنشير إليها ونوضحها.
وكنّا قد أشرنا بقدر ما أسعفنا الوقت إلى عبارة ”ابن الله“ التي يطلقها الكتاب المقدس على المسيح سواء في أسفار التوراة أو الإنجيل. ولاحظنا من خلال تأملاتنا أن بنوّة المسيح لله لا تعني البنوّة الجسدية التي تتمّ عادة بالتزاوج بين ذكر وأنثى، ثمّ لم تكن عبارة ”ابن الله“ مصطلح طرحه أتباع المسيح على سيدهم. ولكن، إن كان من يشعر أن العبارة ثقيلة على مسمعه، فنقول له بصراحة: إن المشكلة بينه وبين وحي الله الذي لا ينطق عن هوى. فالتسمية جاءت واضحة ومتكررة في مناسبات متعددة بين ثنايا أسفار التوراة قبل مجيء المسيح، ثم جاء الإنجيل ليؤكد عليها. وأتباع المسيح فهموا ما تعنيه وتقبلوها، وهم في ذات الوقت يؤمنون بربٍ واحدٍ لا إله سواه. إنما هذا الإله الأوحد لا قيود عليه تمنعه من أن يتراءى لخلائقه كما يشاء. فقد تراءى لأبينا إبراهيم بثلاثة رجال أضافهم عنده في خيمته وهو لا يعلم، حتى كُشفَ له السرّ عندما همّ الرجال بالنزول إلى سدوم وعمورة لإهلاكها.
وتراءى الله ليعقوب أبي الأسباط وهو راجع من عند خاله لابان الساكن ما بين النهرين. تراءى له بهيئة ملاك صارعه حتى الفجر، وعندما عرفه يعقوب تمسّك به بقوّة وقال: ”لا أتركك إن لم تباركني“.
وتراءى الله بهيئة نارٍ في عليقة تلتهب على مرأى من موسى وهو يرعى أغنام حميه يثرون، فشدّه المنظر كيف أن النار تشتعل في العلّيقة لكنها بقيت خضراء لا تحترق. وعندما اقترب كلّمه المولى من وسط اللهيب قائلاً: ”اخلع حذاءك من رجليك. لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدّسة“. فخضع موسى لأمر الربّ، وعندها سلّمه الله النبوة وأرسله لتحرير شعبه من سلطة فرعون.
وتراءى الله ليشوع خليفة موسى عند أبواب أريحا بهيئة رجل وبيده سيف مسلول، ولما اقترب منه قال له: ”اخلع نعلك من رجلك“.
وتراءى الله لمنوح وامرأته بهيئة ملاك الرب كما جاء في سفر القضاة الأصحاح الثالث عشر، وكانت زوجة منوح عاقراً، فبشّرها بأنها ستحبل وتلد ابناً. ولم يعلم منوح أنه هو الرب. فسأله ليتعرف عليه وليعرف من هو، فقال: ما اسمك حتى إذا ما تمّ ما وعدتنا به نكرمك؟ فأجابه: لماذا تسأل عن اسمي وهو عجيب؟ وبعد انتهاء المشهد ارتعب منوح وقال لامرأته: نموت موتاً لأننا قد رأينا الله.
هذه عيّنة حقيقية من ظهورات الله في العهد القديم - عهد التوارة.
قبل أن آتي إلى مشهدٍ آخر في هذه الحلقة تخطرني رؤيا رآها دانيال النبي وردت في سفره الأصحاح السابع، وأشرنا إليها في حلقة سابقة، ونُعيد النظر فيها لنلاحظ ما تحويه من إيضاح يجلو الحقيقة في من ترى يكون ذاك الذي تراءى لدانيال.
يقول النبي دانيال بوحي الله: ”كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحب السماء مثل ابن الإنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام فقرّبوه قدّامه، فأُعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبّد له كلّ الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض“.
ليس أسهل على المسيحي المؤمن الممارس للقراءة في أسفار الكتاب المقدّس من أن يدرك بوضوح ما تعنيه هذه الكلمات، وخصوصاً هوية هذا الذي تراءى لدانيال الذي وصفه بـ ”مثل ابن الإنسان“. فتلك واحدة من ظهورات المسيح في العهد القديم - عهد التوراة - قبل ميلاده مما يؤكّد على أزليته.
فيما سبق أشرنا إلى عبارة ”ابن الله“ التي تُطلق على المسيح، وعرفنا أنها تعني أن المسيح هو صورة الله غير المنظور، وهو جاء من الذات الإلهية، ولم ينبت من طينة الأرض، ولا وُجد من تزاوج ذكر بأنثى. وأن الله اتخذ قراره فتراءى للناس بهيئة إنسان. فكان هو المسيح تماماً كما سبق وأشرنا عندما تراءى قديماً بلهيب نار في عليقة موسى، وبشبه إنسان لدانيال النبي، وبحزمة من النور في رأس سلّم يعقوب أبي الأسباط الهارب من أخيه عيسو في البرية. ففي المسيح تراءى الله لنا بهيئة إنسان. هنا قال الوحي على فم بولس الرسول: ”عظيمٌ هو سرّ التقوى: الله ظهر في الجسد، تبرّر في الروح، تراءى لملائكة، كُرزَ به بين الأمم، أومِنَ به في العالم، رُفع في المجد“.
وهنا نعود إلى رؤيا دانيال الذي رأى المسيح بهيئة ابن إنسان، ولم يكن يعرف المسيح، إنما نطق بما ألهمه الوحي أن يقول، فقال: ”مثل ابن إنسان“. والمسيح في حياته على الأرض استعمل هذا التعبير عن نفسه في العديد من المناسبات والمواقف للدلالة على ناسوته كي لا يؤخذ الناظر إليه وهو يصنع المعجزات، فلا يرى في المسيح سوى الله. وكأن الجسد خيال مؤقت يتراءى كخداع العين.. فالمسيح أكّد بذلك أنه مع كونه ابن الله فهو أيضاً ابن الإنسان، ومن هنا جاءت العقيدة بأن للمسيح طبيعتين:
طبيعة لاهوتية، فهو الله من جهة.
وطبيعة ناسوتية، فهو إنسان من جهة أخرى.
والباحث عن الحقيقة يلاحظ بجلاء ملامح الطبيعتين في مواقف وتصرّفات المسيح. نذكر منها ما أشرنا إليه مرّة في معجزة إقامة لعازر من قبره. فالإنجيل شهدَ بأن المسيح وهو أمام قبر صديقه لعازر الذي أحبه ”بكى“. هنا صورة واضحة لناسوت المسيح ابن الإنسان.. لكن، وفي نفس المشهد بعد أن قال للحضور دحرجوا الحجر عن باب القبر... وفعلوا كذلك، اتجه المسيح إلى باب القبر عن بُعد ونادى بصوتٍ عظيمٍ: ”لعازر هلّم خارجاً“. فسمع له الميت، وقام، وحضر بين يديه.. هنا تجلّى اللاهوت بكامل جلاله. فناسوته ولاهوته لازما حياة المسيح كلّ الوقت حتى إلى صعوده إلى السماء. ونحن كمسيحيين لا نجد صعوبة في إدراك هذه الحقيقة لأننا نؤمن بالوحي من جهة، ولأننا نؤمن كذلك بقدرة الله القادر على كل شيء. فهو إن قال فعل.
يتحدّث الوحي في إنجيل متى أصحاح 24 عن اليوم الأخير فيقول: ”تظلم الشمس، والقمر لا يعطي ضوءه، والنجوم تسقط من السماء، وقوّات السماوات تتزعزع. وحينئذٍ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء. وحينئذ تنوح جميع قبائل الأرض، ويبصرون ابن الإنسان آتياً على سحاب السماء بقوّة ومجد كثير“. والسؤال الذي يطرح نفسه هو:
ما سرّ نوح قبائل الأرض في لحظة ظهور المسيح ابن الإنسان في ذلك اليوم الرهيب؟!
إن حضور المسيح - في مجيئه الثاني - هو حضور بركة وامتياز عظيمين، ولكن ليس للجميع لأنه سيكون حضوراً مخيفاً في يوم الدين للذين رفضوا حضوره في حياتهم، ورفضوا ألقابه المعلنة في كتاب وحيه. فهو ابن الله وابن الإنسان. وهو أيضاً كلمة الله، وبهاء مجده الذي جاء وحلّ بيننا بهيئة إنسان مولوداً من عذراء نقية كنقاء الثلج، وهو سيكون الديان في يوم الدّين الرهيب.
ونحن سبق وأوضحنا أن لاهوته لم يلغِ ناسوته، وناسوته لم يضعف لاهوته بل طبيعتاه لازمتاه بكلّ وضوح وجلاء. فهل عرفته قارئي الكريم؟ هل عرفت من هو؟ ومن أين جاء؟ ولماذا جاء؟ وأيّ سرّ كامنٍ وراء تجسّده؟ آمل أن يكون ذلك قد أصبح واضحاً لديك، لكي تسعدَ وتبتهج معنا في يوم ظهوره في يوم الدّين، بينما الآخرون ينوحون.