أيلول (سبتمبر) 2005
لكل إنسان في هذه الحياة كنزهُ الذي يعُزُّهُ ويقدّرهُ والذي يمثـّل قيمة عظمى بالنسبة إليه. فالمال، والممتلكاتُ الفخمة، والمقتنيات الثمينة من ذهب وجواهر هي كنوز يسعى البشر لامتلاكها. وبعضهم يعتبرون الصحة، والعلم، والسعادة الزمنية كنوزاً يحرصون على إحرازها والتمتع بها. ولكن هنالك كنزٌ فريد هو أعظم الكنوز وأبقاها.
وإلى أرضنا التي تشغفُ بالكنوز، جاء يسوع حاملاً كل بركات وغنى النعمة الإلهية، كي يعطي من غناه غير المنظور لأولئك الذين يُسَرّون بأن يكون لهم كنز من نوع آخر مختلف كلياً عن الكنوز التي يطلبها الآخرون والتي يتطاحنون عليها ويتسابقون لاجتنائها.
يقول الرسول بولس: "فإنكم تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح أنه من أجلكم افتقر وهو غني لكي تستغنوا أنتم بفقره" (2كورنثوس 9:8).
من العسير أن تجد إنساناً يهب كنزهُ للآخرين، أو حتى يكشفه لهم، بل يبقيه في حرزٍ وصون. ولكن يسوع، وهو الله الذي ظهر في الجسد، وله الحق كالأقنوم الثاني في اللاهوت أن يمتلك كل الغنى، والمجد، والكرامة، والعظمة، والسلطان، وأن يكون انطلاقاً من هذا المركز صاحب أعظم الكنوز وإنه لكذلك. ولو جاء يسوع حاملاً من كنوز الأرض يوزع منها على الراغبين، لتراكض الناس إليه يسابق ويزاحم بعضهم بعضاً. ولكنه لم يأتِ لكي يعطي كنوزاً زائلة بل كنوزاً أعظم وأبقى.
تقول كلمة الوحي المقدس بأن المسيح "أخلى نفسه"، أي تخلى طائعاً عن جميع عناصر مجده، وعظمته، ورفعته، وغناه؛ وذلك بمجيئه للأرض المحكومة باللعنة، كي يكون بديلاً عن الخطاة، وممثـِّلاً لهم؛ وذلك لكي يرضي قلب الآب، ويرد للعدالة الإلهية اعتبارها، بعد أن طُعنت وأُهينت بتمرِّد الإنسان وعصيانه ووقوعه تحت حكم الدينونة والقصاص. فجاء المسيح ليؤدي بالجسد طاعة غير محدودة للمشيئة الإلهية، فيعوّض النقص الذي أحدثته الخطية ويرفع الإهانة التي سببتها لمجد الله وسلطانه.
أتى فقيراً إذ وُلد في مذود مستعار. وحين دخل أورشليم كالملك الآتي ركب على جحش مستعار لم يركبه أحد من الناس قط. وحين مات على الصليب وأخذ يوسف الرامي جسده ولفّه بالأكفان مع الحنوط وُضع في قبر مستعار لم يوضع فيه أحد من الناس قط.
لقد كان فريداً في كل شيء في تجسده، وحياته، وموته، ودفنه، إضافة إلى لطفه، وتواضعه، وتضحيته وتعاليمه الرائعة.
¨ افتقر مالك السموات والأرض لكي نستغني نحن بفقره ونمتلك كنوزاً روحية من فيض غناه الذي لا يُستقصى.
¨ وتواضع الإله، وهو أعلى من السموات في مجدها، لكي يعطينا الرفعة؛ إذ أقامنا من أوحال الخطية ليجلسنا مع أشراف أشراف شعبه.
¨ وتألم - الذي ”جال يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس“ - لكي يعطينا شفاءً من آلام النفس وعذابات الضمير.
¨ وأُهين صاحب السلطان والعظمة لكي يهبنا الكرامة كالبنين بعد أن كنا عبيداً للإثم والخطية.
¨ ومات وهو معطي الحياة، ووُضع في قبر في الأرض، وهو الذي ستنفتح القبور لصوته فيقوم الذين آمنوا به ويصعدون معه إلى سماء مجده العظيم.
فأي كنز في الكون يساوي هبات المسيح لنا في عظمتها وغناها؟ وأي ربح في هذه الدنيا يوازي غفران الخطايا بدم الصليب لكل من يعترف بخطاياه للرب، ويأتي إليه طالباً رحمته مقراً بعجزه وعدم استحقاقه؟
فما هي صفات ذلك الغنى الروحي الذي يمنحه الرب يسوع؟
1- غنى المسيح هو غنى الاكتفاء والقناعة
قال الرسول بولس: "التقوى مع القناعة تجارة عظيمة". وقال أيضاً: "كحزانى ونحن دائماً فرحون. كفقراء ونحن نُغني كثيرين. كأن لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء" (2 كورنثوس 10:6).
2- غنى المسيح هو غنى النعمة الإلهية: هذه النعمة هي:
أولاً: نعمة مقدِّسة (بكسر الدال)، "فإذ لنا هذه المواعيد أيها الأحباء لنطهِّر ذواتنا من كلّ دنس الجسد والروح، مكمِّلين القداسة في خوف الله" (2كورنثوس 1:7).
ثانياً: نعمة حافظة، إذ أن نعمة المسيح لا تكتفي ببناء مشفى في أسفل المنحدر الصخري لمعالجة الذين يسقطون، ولكنها تسيّج المنحدر بسور متين يحمي المؤمن من السقوط.
3- غنى المسيح هو غنى الكلمة المقدسة: فكلمة الله لنفس المؤمن كنز عظيم كما يقول المرنِّم: "ابتهج أنا بكلامك كمن وجد غنيمة وافرة" (مزمور 162:119). ويقول أيضاً: "شريعة فمك خير لي من ألوف ذهب وفضة" (مزمور 72:119).
4- غنى المسيح هو غنى الإرث المجيد: "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانية لرجاء حي، بقيامة يسوع المسيح من الأموات، لميراث لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل محفوظ في السموات لأجلكم" (1بطرس 3:1-4).
5- غنى المسيح هو غنى المجد السماوي: "فيملأ إلهي كلّ احتياجكم بحسب غناه في المجد في المسيح يسوع" (فيلبي 19:4).
ما هي فعاليات الإيمان بغنى المسيح الذي لا يُستقصى؟
1- إنه يغيِّر في المؤمن كل الاعتقادات والقناعات السابقة حول مجد العالم المنظور وغناه الزائل، فيقول مع سليمان الحكيم: "لا ينفع الغنى في يوم السخط، أما البر فينجي من الموت"
(أمثال 4:11). ويكون كموسى رجل الله الذي بالإيمان ”لما كبر أبى أن يُدعى ابن ابنة فرعون مفضلاً بالأحرى أن يذل مع شعب الله على أن يكون له تمتع وقتي بالخطية حاسباً عار المسيح غنى أفضل من خزائن مصر لأنه كان ينظر إلى المجازاة" (عبرانيين 24:11-26).
2- يسيطر على شهواته وتصرفاته الحاضرة من أعمال وأقوال. "الإنسان الصالح من الكنز الصالح في القلب يُخرج الصالحات. والإنسان الشرير من الكنز الشرير يخرج الشرور" (متى 35:12).
3- يرفع أشواقه وتطلعاته إلى رجاء الحياة الأبدية كما يقول الرب: "اعملوا لكم أكياساً لا تفنى وكنزاً لا ينفد في السموات حيث لا يقرب سارق ولا يبلي سوس" (لوقا 32:12).
عزيزي القارئ، هلاّ تأملت في تلك الكنوز الباقية وعظمة قيمتها التي لا حدود لها؟ إنه ليحسن بنا كبشر أن نضرع إلى الله القدير كي يمنحنا دائماً من غنى رحمته ولطفه إيماناً حقيقياً عاملاً في نفوسنا، ومؤثراً في مسار حياتنا، لنكون بركة وقدوة للآخرين، ورافعاً قلوبنا عن مشتهيات العالم وأمجاده الباطلة. وقد جعل الله الطريق إلى هذه الغاية سهلاً جداً وذلك بالإيمان، والتصميم، وطلب رحمة الله وغفرانه لخطايانا، فنُعطى قلوباً جديدة وحياة مليئة بغنى المسيح وكثرة صلاحه.