آب (أغسطس) 2006
سؤال يُسأل دائماً: لماذا يتعرّض البار لأمور رديّة؟
لماذا يتألم البار في هذا العالم؟
إنها أمور تتنافى مع الراحة والسلام والاستقرار التي وُعِد بها المؤمن. إنها أمور رديّة بعيدة كل البعد عن طبيعة المؤمن الجديدة. وها هي تزحف إليه وتتصدّى له من حين إلى آخر في حياته اليومية.
يعترف يعقوب قديماً أمام فرعون عندما سأله عن عمره بالقول: ”أيام سني غربتي مئة وثلاثون سنة، قليلة ورديّة“ (تكوين 9:47). ويخاطب صاحب المزمور الله بقوله: ”أنت الذي أريتنا ضيقات كثيرة ورديئة“ (مزمور 20:71). أي إن هذه الأمور الرديّة لم تأتِ من الظروف والأحوال، لكنك أنت يا رب أريتنا إياها وسمحت بها، وربما رتّبتها!
لماذا تصيب البار أمور رديّة؟ لماذا نمرض مثل باقي الناس؟ لماذا تصيبنا الأوبئة؟ لماذا نفقد عزيزاً؟ لماذا نخسر مدّخراتنا التي كسبناها بعرق الجبين، فامتدّت إليها يد سارقة أو التهمتها النار؟ لماذا هذه الأمور الرديّة كلها؟
1- هذا سؤال يفترض أننا نعرف الأمور الردية والأمور الجيدة بالمطلق، ولذلك نستطيع أن نميّز بسهولة بين الأمور الردية والجيدة. لكن مقاييس الله بالنسبة إلى هذه الأمور تختلف عن مقاييسنا. وما نسميه رديّاً ربما لا يكون بهذه الرداءة، وقد يكون جيداً. وبالعودة إلى يعقوب نجد أن أموراً رديّة تراكمت عليه، ”يوسف مفقود وشمعون مفقود وبنيامين تأخذونه. صار كل هذا عليّ“ (تكوين 36:42). لكن الحقيقة أن كل هذه الأمور لم تكن رديّة، يوسف غير مفقود إنما متسلّط في أرض مصر، وشمعون حيّ يُرزق وبنيامين سيكون سبب بركة للعائلة كلها، في نقلته إلى أخيه.
تقويم الله للأمور يختلف عن تقويمنا، لذلك ينبغي أن ”لا تقولوا فتنة لكل ما يقول له هذا الشعب فتنة ولا تخافوا خوفه ولا ترهبوا“ (إشعياء 12:8). الصديقون لا يصيبهم مثل عمل الأشرار (جامعة 14:8)، ”فاعلموا أن الرب قد ميّز تقيّه“ (مزمور 3:4). لكننا نحن لا نستطيع أن نميّز الأمور الرديّة من الأمور الجيدة في المطلق. نحن نرى الخير في سلامتنا وسلامة عائلاتنا، نرى الخير في استقرارنا وعافيتنا، بينما يرى الله الخير في تكوين شخصياتنا الروحية وفي حفظنا في المشيئة الإلهية وسط التجارب والضيقات، ووسط الأمور التي نسميها رديّة. يحاصرنا من خلال ما نظن أنه أمور رديّة لكي نستطيع أن نعمل لملكوت الله ولبرّه. يوصِد الأبواب أمامنا ويقلقنا فنحتار، ولا نعرف كيف نتصرّف، وأحياناً نصل إلى حافة الفشل. يوصِد أبواباً لكي يفتح باباً هاماً يختص بملكوت الله وبالأبدية.
بيع يوسف قديماً فكان الأمر رديّاً للوالد المسكين الذي رأى فيه مصيبة لا تعوّض. وفي حالات كهذه نجمع معلوماتنا من هنا وهناك ونبنيها على اختبارات سابقة ونصل إلى نتائج معيّنة وسريعة: ”افتُرس يوسف افتراساً“ (تكوين 33:37) وانتهى الأمر. هكذا رأى الوالد في ذلك شراً. كذلك الإخوة حين همسوا بعضهم لبعض: ”حقاً إننا مذنبون إلى أخينا الذي رأينا ضيقة نفسه لما استرحمنا ولم نسمع، لذلك جاءت علينا هذه الضيقة“ (تكوين 21:42). هذا من وجهة نظرهم، لكن من وجهة نظر الله وخطته، وبالنظر إلى الأبدية والهدف الروحي: ”أنتم قصدتم لي شراً. أما الله فقصد به خيراً لكي يفعل كما اليوم. ليحيي شعباً كثيراً“
(تكوين 20:50). لسان حالهم يقول، يا ليتنا لم نفعل ذلك، بل لو لم يحصل ما حصل لكنتم هلكتم جوعاً. فنحن إذاً، لا ندرك الخير من الشر بالمطلق.
أين هو الخير في أن يقدّم إبراهيم ابنه ويجتاز هذه التجربة القاسية والمرّة؟ وعلى الرغم من قوة الإيمان فإنها تجربة تهز الكيان؟ ويجتاز إبراهيم في هذا الأتون ويقدّم إسحق ”وهو مجرّب“ (عبرانيين 17:11). وتنفتح عليه كوى السموات وتفيض عليه بالبركات. وما بدا أمراً رديّاً كان فاتحة بركات عظيمة. ”ونادى ملاك الرب إبراهيم ثانية من السماء وقال بذاتي أقسمت يقول الرب. أني من أجل أنك فعلت هذا الأمر ولم تمسك ابنك وحيدك. أباركك مباركة... ويتبارك في نسلك جميع أُمم الأرض“ (تكوين 15:22-18). وهذه البركة التي جاءت بقَسَم والتي كانت ذروة البركات لإبراهيم، جاءت نتيجة لما نسميه أمراً رديّاً. ”فرفع إبراهيم عينيه ونظر وإذا كبش وراءه ممسكاً في الغابة بقرنيه“ (تكوين 13:22). ففهم إبراهيم الدرس وفهم الخطة الإلهية... وهي خير لا شرّ.
2- جاء المسيح وافتدانا لكي يعطينا حياة أبدية وليرعاها وينميها ويصونها. ”خرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها فتتبعني. وأنا أعطيها حياة أبدية ولن تهلك إلى الأبد ولا يخطفها أحد من يدي“ (يوحنا 27:10-28). أي لا تمتدّ إليها أي يد غادرة. وهذا التأمين يسري على حياتنا الروحية الأبدية، لا الجسدية.
سمح الرب للشيطان بأن يمدّ يده إلى كل ما لأيوب حتى إلى جسده. مع أن أيوب كان باراً ومستقيماً، يقدّم الذبائح ويتقي الله، ويتكلم كلاماً صحيحاً ومستقيماً عن الله. ويسمح الرب بأن تحلّ به المصائب المتتالية، ولكن إنذار الرب إلى الشيطان: ”إنما إليه لا تمدّ يدك“.
هناك فرق بين حياتنا الجسدية وحياتنا الروحية. لذلك يقول الرب: ”لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد“ (متى 28:10). ولماذا تسمح أن يُقتل الجسد؟ لماذا نكون مكتئبين ومضطهدين، وحاملين في جسدنا إماتة الرب يسوع؟ لكي تظهر حياة يسوع أيضاً في جسدنا المائت
(2كورنثوس 8:4-10). ”ولكن لنا هذا الكنز في أوان خزفية ليكون فضل القوة لله لا منّا“ (2كورنثوس 7:4). ”ولكن أقول لكم يا أحبائي لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد وبعد ذلك ليس لهم ما يفعلون أكثر“ (لوقا 4:12). هذا هو حدودهم. علينا أن نميّز بين حفظ الله لأرواحنا وحفظ الله لأجسادنا. طبعاً نحن لسنا متروكين للظروف وللشيطان وللعالم. ”لولا الرب الذي كان لنا عندما قام الناس علينا. إذاً لابتلعونا أحياء عند احتماء غضبهم علينا“ (مزمور 2:124-3). ولكان الشيطان انقضّ علينا ووضع يده على أجسادنا، وابتُلينا بالأوجاع والآلام والأمراض. لكن ثمة عناية خاصة بنا ”لأن الرب قد ميّز تقيّه“ (مزمور 3:4).
3- يقول الكتاب المقدس إن الخليقة كلها أُخضعت للبطل، نتيجة للسقوط. والخطية تسيطر الآن على العالم، والشيطان يعيث في الأرض فساداً، والبار يعيش في هذه الجهنم الأرضية فتصيبه بعض الحروق.
لا نقدر أن نهرب من الحروب، وتعدّيات الإرهاب، ونتائج الفوضى والبغض المستشري في العالم، ومسبّبات القتل والسرقات والاغتيال، وكل ما له صلة بأعمال الجسد ونتائج الخطية. لم نصل بعد إلى السماء، ومملكة المسيح هي ضمن مملكة الشيطان الآن. ثمة عناية خاصة بأولاد الرب، لكن أيضاً ثمة أمور كثيرة تجتاح هذا العالم الساقط، وإذ نحن فيه، نتأثـّر بها، وهكذا يصيبنا ما يصيب الآخرين.
4- الإنسان، وهذا يشمل البار أيضاً، مطرود من الجنّة وعليه أن يتحمّل أعباء الحياة، فيأكل خبزه بعرق وجهه، وعليه أن يباري أبناء هذا الدهر الذين هم أحكم منه. ينبغي للبار أن يعيش وسط جيل معوّج وملتوٍ، ويقاوم حتى الدم مجاهداً ضدّ الخطية، وهو وحده عرضة لسهام الشرير الملتهبة. في هذه الأجواء العدائية، يُظلَم البار يُفترى عليه ويُشتم. يُضرب على خدّه الأيمن. يُؤخذ رداءه ويُسخر منه. وبينما النجس يتنجّس بعد، يحارب البار النجاسة ويتبرّر بعد. ”إلى هذه الساعة نجوع ونعطش ونَعرى ونُلكم وليس لنا إقامة“ (1كورنثوس 11:4).
5- أخيراً، ما نحتاج إليه في الظروف الصعبة، وفي البلوى المحرقة الحادثة بيننا، وفي أمراضنا ليس جواباً عن أسئلتنا بل نحتاج إلى إعلان جديد من الله، وفهم جديد، وحكمة جديدة، واستنارة جديدة. إعلان جديد من الله عن عظمته، وسلطانه، وقدرته، وعنايته، ومحبته لأولاده.
لا نسأل لماذا يا رب؟ بل نسأل، ماذا تريد يا رب؟ ما هو الدرس؟ ما هو الإعلان؟ نحتاج إلى إعلان عن مجمل الحياة وعن هدفها. ففي أحيان كثيرة تهتزّ الصورة وتغيب معالم الطريق. نعيش لأننا نعيش ولأننا اعتدنا نمطاً معيّنا من العيش. مستريحون إلى أوضاعنا، ومستريحون في العش، ولا نريد أن يهتزّ. نريد أن تسير الأمور كما هي وبشكل طبيعي. نحتاج الآن إلى إعلان عن مدى اقترابنا من خطة الله ومن مشيئته لكل واحد منا. وترتسم أمامنا الأسئلة: هل أنا في المشيئة الإلهية؟
تحت ضغط الظروف تختلط علينا الأمور فتخرج عن أحجامها الطبيعية. ليست مشكلة ولا بلية إن تعرّض أحدنا أو أحد أفراد عائلاتنا لحروق من الدرجة الثالثة، بل المصيبة التي لا حدّ لها إن تعرّض أبناؤنا لحروق جهنم. خسارة الأموال والممتلكات ليست خسارة بل أن نخسر الأبدية أو يخسرها أحباؤنا فهذه خسارة لا تعوّض. لذا نحتاج إلى إعلان عن أمور أكبر من نفوسنا، وأوسع من دائرة تفكيرنا ومحيطنا الذاتي كي تستعيد حياتنا حجمها وبريقها فتستقيم.
تعثـّر تفكير أيوب تحت تأثير الظروف القاسية فتكاثرت عليه التساؤلات، ”أأخطأت ماذا أفعل لك يا رقيب الناس... لماذا لا تغفر ذنبي؟“ لذا احتاج إلى إعلان جديد عن عظمة الله، وعن قدرته، وحكمته، وعنايته، ومحبته. عندئذ كلم الرب أيوب من العاصفة وأعلن له ذاته. وردّ أيوب قائلاً: ”ها أنا حقير فماذا أجاوبك“. فاستقامت حياته كما يجب.
الرب موجود معنا وهو يعمل لخيرنا وأفكاره من جهتنا أفكار سلام لا شر. لذا نحتاج إلى رؤى جديدة، وإعلانات جديدة، وعندئذ نشعر بوجود الله وبقربه منا، وبتعزيات الروح القدس تلمس حياتنا بل تملأها من جديد.