آب (أغسطس) 2006
كانت الذبائح في العهد القديم جزءاً أساسياً في العبادة طبقاً للناموس. فسُفكت دماء حيوانات بلا عدد لأن ”كل شيء تقريباً يتطهّر حسب الناموس بالدم، وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة“ (عبرانيين 22:9). لكن ”لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع الخطايا“ (عبرانيين 4:10). لذلك جاء المسيح ”ليبطل الخطية بذبيحة نفسه“ (عبرانيين 26:9). وبذلك انتهى دور الذبائح الحيوانية لأن المسيح هو حمل الله الذي جاء ليرفع خطية العالم (يوحنا 29:1). إلا أن العهد الجديد يتكلم عن ذبائح أخرى يُسرّ بها الله وهي موضوعنا في هذا المقال:
أولاً: ذبيحة التسبيح
”فلنقدّم به في كل حين لله ذبيحة التسبيح، أي ثمر شفاه معترفة باسمه“ (عبرانيين 15:13). هذه ذبيحة يُسرّ بها الله. وهذه الحقيقة كانت معروفة عند قديسي العهد القديم. فمع أن عهدهم كان عهد الذبائح الحيوانية إلا أن ”روح المسيح الذي فيهم“ أعطاهم بصيرة روحية ليدركوا أن هذه الذبائح في حدّ ذاتها لا تفرّح قلب الله. كما قال داود حين أخطأ خطيئته الشنيعة ”لأنك لا تسرّ بذبيحة وإلا فكنت أقدّمها. بمحرقة لا ترضى“ (مزمور 16:51).
وفي المزمور السابق قال: ”اذبح لله حمداً“، وأيضاً ”ذابح الحمد يمجدني“ (عدد 14 و23). كذلك هوشع النبي إذ كان يدعو الشعب للرجوع إلى الرب قال لهم: ”ارجع يا إسرائيل إلى الرب إلهك لأنك قد تعثـّرت بإثمك. خذوا معكم كلاماً وارجعوا إلى الرب. قولوا له: ارفع كل إثم واقبل حسناً، فنقِّدم عجول شفاهنا“ (هوشع 1:14-2). فهو اعتبر ثمر الشفاه أثمن من العجول التي تقدّم كذبائح. كان داود يعرف جيداً قيمة التسبيح لله، ولذلك رتّب فِرق المسبّحين ”أربعة آلاف يسبّحون للرب بالآلات التي عُملت للتسبيح“ (1أخبار 5:23). ومن يقرأ سفر المزامير يتعلّم أهمية التسبيح، وكيف كان يلذّ لرجال الله الأتقياء أن يسبحوا الرب، وكانوا يحرّضون المؤمنين الآخرين على ذلك. ”اهتفوا أيها الصديقون بالرب. بالمستقيمين يليق التسبيح“ (مزمور 1:33). كما يفتتح مزمور 34 بالقول: ”أبارك الرب في كل حين، دائماً تسبيحه في فمي“، وفي المزمور الأخير مزمور 150، كل آية من آياته الخمسة تدعو إلى التسبيح. فإن كان هذا هو الحال مع مؤمني العهد القديم، فكم يجب أن تكون حياتنا حياة التسبيح نحن الذين نعيش في عهد النعمة، وروح الله يسكن فينا، وعرفنا نعمة ربنا يسوع المسيح الذي وهو غني، لأجلنا قد افتقر لكي نستغني نحن بفقره. الذي رُسم أمام أعيننا يسوع المسيح وإياه مصلوباً، وبالإيمان نراه عن يمين الله يشفع فينا، وسيأتي ليأخذنا إليه، وقد تأكدنا أنه لا شيء يقدر أن يفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا (رومية 31:8 و39). ألا يليق بنا أن نقدم به في كل حين لله ذبيحة التسبيح؟ أي ثمر شفاه معترفة باسمه. فبدل أن نهاجم بعضنا بعضاً نصبح ”مكلمين بعضنا بعضاً بمزامير وتسابيح وأغاني روحية مترنمين ومرتلين في قلوبنا للرب“ (أفسس 19:5). ذبيحة التسبيح تفرّح الرب، وتفرّح المؤمن الذي يسبّح الرب، وتفرّح السامعين. لذلك ألّف المؤمنون ترانيم جميلة، واشتملت اجتماعاتنا على التسبيح للرب، وسنستمرّ نسبّحه طوال الأبدية.
ثانيًا: ذبيحة التوزيع
”ولكن لا تنسوا فعل الخير والتوزيع لأنه بذبائح مثل هذه يُسرّ الله“
(عبرانيين 16:13). نحن نعرف من كلمة الله أننا مخلصون بالنعمة. بالإيمان وذلك ليس منا، هو عطية الله. ليس من أعمال كيلا يفتخر أحد (أفسس 8:2 و9). ولكن بعد هذا مباشرة يقول: ”لأننا عمله مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدّها لكي نسلك فيها“ (عدد 10). فالإيمان الحقيقي له ثمار أكيدة، وأحد هذه الثمار هو الأعمال الصالحة مثل فعل الخير والتوزيع التي هي ذبائح يُسرّ بها الله. وفي رسالة تيموثاوس الأولى 17:6-18 يقول الرسول بولس لتيموثاوس: ”أوصِ الأغنياء في الدهر الحاضر أن لا يستكبروا ولا يلقوا رجاءهم على غير يقينية الغنى... وأن يكونوا أغنياء في أعمال صالحة وأن يكونوا أسخياء في العطاء، كرماء في التوزيع“. فالعطاء بسخاء والكرم في التوزيع هو من ثمار الإيمان الحقيقي. يحدثنا سفر أعمال الرسل عن فتاة اسمها طابيثا، ”هذه كانت ممتلئة أعمالاً صالحة وإحسانات كانت تعملها“ (أعمال 36:9). لما ماتت طابيثا استدعوا بطرس أن يأتي ولا يتوانى. فلما وصل إلى هناك ”وقفت لديه جميع الأرامل يبكين ويرين أقمصة وثياباً مما كانت تعمل غزالة (أي طابيثا) وهي معهن“ (عدد 39). ولكم كان الفرح بالغاً عندما أقامها بقوة الرب من الموت! المؤمن يحتاج إلى مواهب بارزة ليقدّم هذه الذبيحة التي يُسرّ بها الله. يقول الرسول يعقوب إن ”الديانة الطاهرة النقية عند الله الآب هي هذه: افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم“ (يعقوب 27:1). كانت الشريعة توصي بالعناية بالفقراء واليتامى والأرامل، بل إن الله نفسه يوصَف بأنه ”أبو اليتامى وقاضي الأرامل“ (مزمور 5:68). وقال لهم: ”وعندما تحصدون حصيد أرضكم لا تكمل زوايا حقلك في حصادك، ولقاط حصيدك لا تلتقط. للمسكين والغريب تتركه. أنا الرب إلهكم“ (لاويين 22:23). وأيضاً ”لذلك أنا أوصيك قائلاً افتح يدك لأخيك المسكين والفقير في أرضك“ (تثنية 11:15). أما في العهد الجديد حين أراد الروح القدس أن يحرّض المؤمنين على ذبيحة التوزيع والسخاء في العطاء ذكّرهم بربنا يسوع المسيح ”الذي وهو غني لأجلنا قد افتقر لكي نستغني نحن بفقره“ (2كورنثوس 9:8). وكما أن ذبيحة التوزيع يُسَرّ بها الله، فهي أيضاً تفرّح المعطي المسرور، وتفرّح من ينالون العطاء ”إذ هم باختبار هذه الخدمة يمجدون الله على طاعة اعترافكم لإنجيل المسيح، وسخاء التوزيع لهم وللجميع“ (2كورنثوس 13:9).
ثالثاً: الذبيحة الحية المقدسة
”فأطلب إليكم أيها الإخوة برأفة الله أن تقدّموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية [أو بعقل، كما ورد في الترجمة الحديثة]“ (رومية 1:12). وقوله ”ذبيحة حية“ يعني أنه لا يقصد إفساد الجسد أو تعذيبه أو إهلاكه. وكونه ”ذبيحة“ يعني أن نعتبره ملكاً للرب. فحين كان الإسرائيلي يقدم للكاهن الذبيحة لم تكن له سلطة عليها بعد ذلك. والجسد يشمل كل ما نقوم به من أعمال في حياتنا. ولكي تكون هذه الذبيحة ”مقدسة“ يجب أن تمتنع العين عن النظرات النجسة ومراقبة الأفلام الخليعة، بل ننظر إلى خدمة الرب وإلى احتياجات الآخرين، والأذن لا تصغي إلى ”كلام السفاهة والهزل التي لا تليق“ واللسان لا يكذب، ولا يشتم، ولا يحلف، ولا يذمّ الآخرين، ولا يفتخر، بل يكون كلامه ”مصلحاً بملح ليعطي نعمة للسامعين“، واليد لا تضرب، ولا تسرق، بل تعمل ما هو صالح، والرجل لا تذهب إلى أماكن الخلاعة، بل إلى أماكن العبادة. هذه نتائج تقديم أجسادنا ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله، وهذه هي العبادة بعقل. وهذا بالمقارنة مع العبادات الوثنية وغيرها، التي هي بجهل وجنون.
المؤمن الحقيقي لا يشبع قلبه إلا بهذه العبادة المرضية عند الله، ولسان حاله يقول:
سيدي استلم حياتي
وقوى عقلي وذاتي
في حياتي ومماتي
إنني ملك لسيدي المسيح
آمين!