آب (أغسطس) 2006
معجزة شفاء الأبرص
يتحدّث الكتاب المقدس من إنجيل لوقا 5 عن رجل أبرص شفاه يسوع، يقول: وكان في إحدى المدن، فإذا رجل مملوء برصاً، فلما رأى يسوع خرّ على وجهه وطلب إليه قائلاً: ”يا سيد إن أردت تقدر أن تطهرني“. فمدّ يده ولمسه قائلاً: ”أريد فاطهر“. وللوقت ذهب عنه البرص. فأوصاه أن لا يقول لأحد بل يمضي ويري نفسه للكاهن ويقدم عن تطهيره كما أمر موسى شهادة للآخرين.
لنا هنا قارئي العزيز الملاحظات التالية:
أولاً: لا بدّ من توضيح مختصر يسلّط الضوء للتعريف بمرض البرص.
البرص مرض خطير، إذا أُصيب به إنسان يُحكم عليه بالعزلة بعيداً عن الناس، وهذا ما يُشار إليه اليوم ”بالحجْر الصحي“، وإذا اقترب أحد من الأبرص سهواً كان عليه أن يصيح محذراً ”أبرص أبرص“ لكي يجنّب الغير من الإصابة بالعدوى. والأبرص الذي أمامنا كان مملوءاً برصاً بمعنى أن المرض كان منتشراً في كل جسمه.
ثانياً: بسبب خطورة المرض وانتشاره في تلك الأيام القديمة خصّص الوحي في شريعة موسى تشريعاً خاصاً في كيفية التعامل مع الأبرص في حال اكتشاف المرض في أحدهم.
وفي حال منّ الله عليه بالشفاء. ففي هذه الحالة الأخيرة، على المريض الذي تعافى واجب يقوم به، وعلى كاهن الرعية مسئولية للتحقق من ذلك وإعلان شفاء المصاب من مرضه. والشريعة في زمن العهد القديم، كانت تعتبر البرص نجاسة تُعفي صاحبها من القيام بواجبات العبادة كباقي أفراد المجتمع، فالنجاسة تفسد العبادة.
ثالثاً: يرى مفسرو الكتاب المقدس تشابهاً كبيراً بين البرص والخطية
1- كلاهما وبأ وراثي
فالخطية طبيعة موروثة من آدم انتقلت إلى نسله على مرّ الأجيال، ولم يُستثنَ منها أحد. والبرص كذلك مرض معدٍ ينتشر بسهولة من المصاب إلى كل من يتعامل معه أو يلمسه عن قرب، سواء بالزواج أو التعايش معاً أو الاحتكاك العادي من خلال الطعام أو اللباس أو حتى عن طريق الهواء.
2- كان البرص في عهد الشريعة الموسوية نجاسة ضد الطهارة
ولدى المسلمين على سبيل المثال، البول لو لامس المصلّي أو جسمه يفسد الصلاة ويُعدّ نجاسة، والوضوء يطهره. والاغتسال عند اليهود يطهر الجسد ويهيّئ صاحبه للصلاة والعبادة... أما في المسيحية فالنجاسة هي الخطية. الخطية نجسة تعيب الإنسان وتعيق استجابة الصلاة.
3- التشابه الثالث بين الخطية والبرص هو استحالة الشفاء بالطرق التقليدية
فالبرص لا شفاء له إلا إذا حصلت معجزة ربانية. وكذلك الخطية لا شفاء لها مسيحياً إلا بالتوبة المخلصة والرجوع إلى الله، عندها تُغفر الخطية على حساب دم المسيح الذي سال على الصليب فداء للبشرية.
4- البرص والخطية يسببان العزلة
فالأبرص يُحكم عليه قديماً بالعزلة عن مجتمعات الناس. فهو محجورٌ عليه لا يقترب منه أحد ولا يلامسه. والخطية كذلك تبني جداراً بين الله والإنسان. يقول الوحي في سفر إشعياء: ”آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم وخطاياكم سترت وجهه عنكم حتى لا يسمع“. وهذه الحقيقة يؤكدها مشهد عرفناه عندما أخطأ آدم وخالف وصية الله فطُرد من الجنة وهناك حصلت العزلة بين الله والإنسان. لهذا جاء المسيح ليصالح الاثنين معاً - الله والإنسان - فصار هو الفدية والذبح العظيم. كثيرون من المتعبدين لم تصلهم هذه المعلومة، وكثيرون منهم يمارسون العبادة ومعها يستمرون في ممارسة الكذب، والنفاق، والشتائم، والسرقة، والمكر، والبغضاء، والتعصّب... فكل واحدة من هذه تبني جداراً بين الله ومرتكبها.
5- البرص والخطية كلاهما موت شرعي أو موت حيّ
فالأبرص ميّت وهو حيّ. يُقال أن الأبرص كان يُلبس أكفان الموتى، وتتلى عليه صلاة الموتى قبل أن يُبعد أو يُحجر عليه بعيداً ليعيش في عزلته. والخاطي كذلك، هو حيّ بجسده لكنه ميّت روحياً وعلاقته بالله علاقة مقطوعة.
جاء أحدهم إلى المسيح وقال له يا سيّد أريد أن أتبعك لكن ائذن لي أولاً أن أدفن أبي. فقال له: دع الموتى يدفنون موتاهم وتعال اتبعني، أي دع الموتى (الأحياء) يدفنون موتاهم.
ونعود للمشهد مع الأبرص: فهو عندما رأى يسوع عن بُعد خرّ على وجهه وقال: يا سيّد، إن أردت تقدر أن تطهرني. واضح من قوله هذا أنه كان يعرف يسوع ويعرف أن له سلطاناً على الأمراض ولو استعصت. فهو يشفي، لكنه لم يكن واثقاً من أن إرادة يسوع يمكن أن تشمله، وكأن يسوع مزاجيُّ الإرادة يمكن أن يريد أو أن لا يريد.
المسيح ليس هكذا وهو القائل: ”تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيليّ الأحمال وأنا أريحكم“. وقال عنه الإنجيل: ”جال يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلّط عليهم إبليس“، وقال هو عن نفسه: ”من يُقبل إليّ لا أخرجه خارجاً“، بمعنى أنه لا يفشِّل أحداً يرجو مساعدته... فكان هذا الأبرص من أحقّ الناس للمساعدة في مأساته هذه!
والمسيح جاء لكل الناس لا لفرد دون آخر، بل جاء للجميع: للوثني، لليهودي، للمسيحي، للمسلم، للدرزي، للصابئي، لليزيدي، للأسود، للأبيض، للأصفر، للأحمر...
قال الأبرص: ”يا سيّد، إن أردت تقدر أن تطهّرني“. فردّ عليه يسوع بحنانه مستخدماً ذات الكلمة التي شكّك فيها الأبرص، فقال: ”أريد فاطهر“. وليس هذا فقط، بل زاد بأن مدّ يده ولمسه! ولعلّ هذه اللمسة بذاتها كانت بالنسبة لهذا المسكين هي معجزة... فهو منذ أن أصابه المرض عاش في عزلة عن الأهل والأحبة والأصدقاء، ولم يلمسه أحد طيلة أيام مرضه. فقد كان بحاجة للمسة حنان من قلب عطوف كقلب يسوع لتملأ فراغاً كان يفتقده. وأخال أن لمسة من يسوع لجسده أرعشته وأشعرته بأنه يوجد من يحبه، وبها عاد له الشعور بكرامته وكيانه.
لاحظ معي قارئي العزيز، إنك عندما تلتقي مع صديق تحبه تمدّ إليه يدك وتصافحه. ولا تكتفي بكلمات السلام المعتادة. إن ملامسة الأيدي ضرورية لتُشعر الطرفين بالاهتمام، والتكريم، والحب، والتقدير، والتواصل. فقد تلتقي أحياناً بطفل ما وتريد أن تعبّر له عن محبتك واهتمامك، فتجد نفسك مدفوعاً لتمدّ يدك لتلامس خدَّي الطفل استشعاراً منك ببراءته، وأنت إن فعلت ذلك، يسري من لمسة يدك دفق من حرارة الحب والحنان، يشعر بها الطفل ويبتهج.
لا شك أن كلمات يسوع للأبرص ”أريد فاطهر“ قد منحته الشفاء الأكيد من برصه، إذ يقول الإنجيل: ”وللوقت ذهب عنه برصه“. أما لمسة يد يسوع لجسده فمنحته شفاء آخر كان ضرورياً لم يغفل عنه يسوع، فيها شفى نفسيةً محطّمة بسبب العزلة والوحدة واليأس والحرمان والعواطف المسحوقة والمصير المحتوم.
عزيزي القارئ،
هذا هو المسيح الذي ننادي به! هل له من مثيل ؟!
أنت بحاجة للمسة من يده... اقترب منه، تعرّف عليه، وطوباك لو فعلت.