شباط (فبراير) 2006
لقد حصل ما كنا نخشاه: لعازر مات. لعازر الذي يحبه يسوع، مات.
أن يتحرك العش ويدبّ المرض أمر مقبول، أمّا أن يُقلب العش وتحل الكارثة فتلك مصيبة. لم تنفع العقاقير ولا الوسائل العادية المستعملة في مثل هذه الحالات، بل جاءت الصدمة كبيرةً وكان وقعها مأساوياً.
كانت المحاولات سريعة لإنقاذه من المرض، لكن الموت كان أسرع. كثيراً ما نحاول أن نتخلّص من مأزق، أو وضع عصيب، أو كارثة مستقبلية، أو ضيق، أو مأساة، ولكننا نجد إمكاناتنا هزيلة لا تجدي نفعاً في أوضاع كهذه.
هنالك خطة إلهية وبرنامج إلهي معيّن، وعلينا أن نُدخل أفكارنا وآراءنا وإمكاناتنا ضمن هذه الخطة. فموت لعازر مُبرمَج، والتخطيط الإلهي دقيق، وما يفعله الرب يفعله بإرادته الحرة الصالحة.
لقد اشتدّ المرض، ولم يأتِ شافي الأمراض، وخبا بصيص أملنا. إن المسيح غالباً ما يأتي في الهزيع الرابع، فجاء الهزيع الرابع والمسيح لم يأتِ.
ماذا يدور في أفكارنا في حالات مثل هذه؟ نحن نظن أن المسيح رهن إشارتنا وتحت تصرفنا، لكن العكس هو الصحيح، نحن تحت تصرف المسيح. فإن كانت صلواتنا بحسب إرادة المسيح تُستجاب. وإن كان ما نطلبه لأجل مجد المسيح، فصلواتنا مسموعة، ذلك لأننا نسير والمسيح في البرنامج عينه.
ألا نُصلّي باستمرار: يا رب، باركني استخدمني وتمجّد في حياتي؟ لا بد أن الرسول بولس كان يصلّي هذه الصلاة وكانت تستجاب، وهكذا كتب يقول: "الآن يتعظم المسيح في جسدي سواء كان بحياة أم بموت" (فيلبي 20:1). لذلك عاش على هذا الأساس بشكل مستمر، وإذ ذاك علّمنا أن أجسادنا وأرواحنا هي للرب.
كثيراً ما نصلّي: "يا رب أنا لك، وعائلتي لك، وشغلي لك، وممتلكاتي لك، ليتك تتمجد في الكل." وعندما يبدأ الرب بالاستجابة، نحتجّ. عندما يضع المسيح إصبعه على ما هو له وما نكرسه له، نسرع بالقول: "يا رب كل شيء لك ما عدا هذه". ومشكلتنا مع الرب هي أنه دائماً يطلب العزيز. لا يرضى بالعائب، ولا بالأعرج، ولا بالأعمى، ولا بالكسيح، ولا بالمسروق، لكنه يريد الصحيح (راجع ملاخي 1). لم يأتِ المسيح إبّان المرض، ولم يأتِ إلى المأتم، ولم يأتِ بعد ذلك يعزّي، بينما اليهود جاءوا يعزّون. نحن دائماً نفكّر أنه إنّ كان المسيح، لسبب أو لآخر لم يمنع المكروه، فأقلّه نتمنى أن نشعر بوجوده بجانبنا وسط المعاناة والآلام. هل تراودنا هذه الأفكار؟ هل نشعر بأننا نجترّ آلامنا وحدنا؟ الوالدة لا تشعر معنا، والوالد لا يشعر معنا، الصديق لا يشعر، والجار أيضاً؛ وحده "القلب يعرف مرارة نفسه.." (أمثال 10:14).
يغيب عن بالنا أحياناً، وخصوصاً في ظروف كهذه، أن يسوع يشعر معنا ويركب السحاب لمعونتنا، لكن له وقته وله ساعته في التدخل، وبحسب برنامجه ومخططه. وعلينا بالتالي أن نرتقي من مستوى آلامنا وأحزاننا إلى مستوى برنامج الله وخطته؛ ألا وهو تمجيد الله. أتحبين يسوع يا مريم؟ إذاً خذي فكر المسيح وارتقي إلى فكر المسيح. إن كان المسيح ينزل دائماً إلى مستوانا ويدلّلنا، فهذا ليس لصالحنا. سنبقى أطفالاً، ممنوع علينا أن نتألم ونتعب ونبكي. هذا يعني أنه ممنوع أن نصير رجالاً وأبطالاً. ممنوع أن نتحمل المسؤوليات ونمجد الله. فنحن نستسهل اللهو على شاطئ الإيمان.
أخال مريم تبربر: اشتقنا إلى المسيح، فهو منذ مدة لم يطلّ علينا بطلته الحلوة، يملأ البيت فرحاً وبهجة، نتغزل به تعبيراً عن محبتنا له. ألأجل هذا ولدنا المسيح ثانية؟ أليس لكي نقوم بالأعمال المعدّة لنا كأعضاء في جسد المسيح؟
الآن، وفي رأي مريم، حصلت الخسارة، الخسارة التي لا تعوَّض؛ خسارة الأخ عمود البيت. فُقِدَ العزيز وحلّت الكارثة، والمسيح لم يأتِ؟ هل يعني هذا أيضاً خسارة المسيح؟ إن خسرنا الكل، إيانا أن نسمح للشيطان أن يدقّ الإسفين بيننا وبين المسيح. إنها الخسارة التي لا تعوّض!
أيوب خسر الكل أمّا الرب فعاد وعوّض عليه الكل. لكنه لو خسر الرب ولم يعرف كيف يأخذ موقفاً مع الرب، لكانت خسارته لا تُعوَّض.
المسيح لا يتغيَّر، فهو يحب مريم ومرثا ولعازر وهو في بيت عنيا، كما وهو في عبر الأردن. يحب لعازر وهو صحيح، كما وهو مريض، وكما وهو ميتٌ أيضاً؛ يحب هذه العائلة في كل ظرف وفي كل وقت وفي كل مكان. المسيح لا يتغير، ومحبته لا تتغير، وأمانته لا تتغير. وحده البعيد القريب، وحده يشعر معنا، وحده الصديق الصدوق، "المحب الألزق من الأخ" (أمثال 4:18). لكن دلائل محبته تختلف عن دلائل محبتنا. نحن نقدم العواطف الجوفاء والكلام الفارغ، أو بعض الهدايا البسيطة. أما نوع المحبة الإلهية ودلائلها فتختلف. أحياناً يكون الدليل المحبة الباذلة: "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد" (يوحنا 16:3). "ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه" (يوحنا 13:15). وأحياناً أخرى تبرز من خلال مِيتَةٍ معيّنة يتمجد الله بها (يوحنا 18:21-19).
هل نقبل هذه المعاملة كمعاملة محبة؟ "لعازر مات"، لكن أمانة المسيح لم تتغير، ودلائل محبته هي هي. وماذا نقول عن الخسارة التي وقعت؟ من منّا يرضى بالخسارة؟ من منّا يحب أن يضحي؟ كلنا طلاب أخذ. وانطلاقاً من هذه القاعدة جاء التعليم العصري: "خذ المسيح مثلما أنت وابقَ كما أنت". هذا التعليم مستقل كل الاستقلال عن تعليم الكتاب المقدس، وعن رأي المسيح. فعلاقتنا بالمسيح تبدأ بالترك والتضحية على حد قوله: "من أراد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني" (مرقس 34:8).
الرسل الذين دعاهم المسيح كانوا مثالاً لنا. لقد تركوا الشِّباك، والسفن، والأهل، وتبعوا يسوع. متّى ترك الوظيفة، وبطرس يقول: "ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك" (متى 27:19). والرسول بولس يقول: "ما كان لي ربحاً بهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة، بل إني أحسب كل شيء خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي، الذي من أجله خسرت كل الأشياء، وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح" (فيلبي 7:3و8). يا ترى، هل هذا كان قصد المسيح بالنسبة إلى مريم ومرثا؟ هل اشتعلت غيرته؟ هل حان الوقت للملمة القلب وتوجيه محبتهما نحو شخص واحد، هو الرب؟ هل جاء الوقت للتمييز بين محبة مريم ومرثا للعازر وبين محبتهما للرب؟ هل هذا اختبار جديد أو مرحلة جديدة؟ ومن ترك كل شيء وتبع المسيح، لم يبقَ شيء يخسره!
غربت الشمس إذ بعد نهار، وحلّ الحزن مكان الفرح. ساد البيتَ والقلبَين فراغٌ رهيب؛ ويبدو أنه المشهد الأخير. لو كان هذا فعلاً المشهد الأخير، لكان إيماننا باطلاً (1كورنثوس 17:5). ولو كان يسوع فعلاً لا يأبه عندما تحل بنا الكوارث، لكنّا أشقى جميع الناس. لكن، ما نظنه المشهد الأخير هو بالنسبة إلى المسيح المشهد ما قبل الأخير؛ إنها مرحلة جديدة. إنها مرحلة المخاض التي تكلم عنها المسيح: "المرأة وهي تلد تحزن لأن ساعتها قد جاءت، ولكن متى ولدت الطفل لا تعود تذكر الشدة لسبب الفرح، لأنه قد وُلد إنسان في العالم" (يوحنا 21:16).
لكن من يتطوَّع؟ من يقبل بقلب العش؟ نحن نحبّ أن نبقى في المرحلة التي نحن فيها. نستريح إلى أوضاعنا وخدمتنا وعبادتنا. نحن لا نريد "ضرب الاستقرار". ننشد الاستقرار كأفرايم الذي "صار خبز ملّة لم يُقلب" (هوشع 8:7). ما لم تأخذ محبتنا أبعاداً جديدة وأعماقاً جديدة واختبارات جديدة، تفقد بهجتها ووهجها وحلاوتها، وتصبح رتيبة.
إن المرحلة الجديدة التي يجب أن نمرّ بها هي الرعبة المظلمة التي وقعت على أبرام، وذلك قبل إعلان مصباح النار الذي اجتاز بين القطع، حيث قطع الرب عهداً مع أبرام، ميثاقاً جديداً (راجع تكون 17:15و18). إنها نار الأتون التي كرست بطولة الفتيان. فلا أبطال من دون أتون الآلام والتجارب المرّة، ومن دون البلوى المحرقة. إنها مرحلة الصمود التي زكّت إيمان الفينيقية العظيم، الصمود في وجه صمت رهيب وكلامٍ قاس، فكان لها ما أرادت وكما أرادت، أي بالطريقة التي تريدها.
إنها مرحلة الأبواب المغلقة التي دخل المسيح منها ليعطي السلام للكنيسة الخائفة. مرحلة خوف وتوقّع وانتظار المجهول؛ والمسيح يتدخّل. إنها مرحلة موت إسحق، ”خذ ابنك وحيدك الذي تحبه... وأصعده محرقة... فبكّر إبراهيم صباحاً“ (تكوين 2:22و3). لقد كان عنده هذا التصميم، وكان على وشك تنفيذه لولا تدخل السماء. "بالإيمان إبراهيم قدّم إسحق وهو مجرّب" (عبرانيين 17:11). مرحلة صعبة، لكنه نال بعدها البركة بقسم. "بذاتي أقسمت يقول الرب إني... أباركك مباركةً... ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض... (تكوين 16:22-18). إنها مرحلة وفاة عزّيا الملك، وإذ ذاك يُرى السيد. السيد موجود وليس من يراه، الأنظار موجّهة إلى الملك والقصر والأكل والشرب واللهو. القلوب مثقَّلة "في خمار وسكر وهموم الحياة" (لوقا 34:21)، ولمّا غاب عزّيا ظهر السيد.
لننتظر من الرب إعلانات جديدة، ونسع لكي نفهم معاملات الرب. أيوب يتساءل قديماً ويقول للرب: "فهّمني لماذا تخاصمني" (أيوب 2:10). أي لماذا تواجهني، وتجعل وجهك مقابل وجهي، وعينك مقابل عيني؟ لنضع نفوسنا بين يدي الرب وتحت تصرفه لكي يفهّمنا. الرب أمين ومحبّ وحنون، وهو يعمل لخيرنا الروحي ولمجد اسمه، وبالحسبان أن هذا هو توجّهنا أيضاً؛ لذلك يؤهلنا لكي يستخدمنا.