كانون الثاني (يناير) 2007
في إحدى سفرياتي لخارج البلاد كان عليَّ أن أنزل في أحد المطارات الأجنبية لأنتقل إلى طائرة أخرى توصلني إلى حيث أريد، وكانت الرحلة الثانية تلك تبعد عني أربعة ساعات وأنا بالانتظار، فدخلت إلى مطعم في مباني المطار يقدم وجبات سريعة جاهزة، وتناولت الوجبة من يد الموظف وجلست على مقعد بجانب طاولة صغيرة، وأحْنَيْتُ رأسي في صلاةِ شكرٍ لله على فضله ونعمه ثم باشرتُ في الطعام.
وتبيَّن لي فيما بعد، أن مسافراً عربياً آخر كان يجلس في نفس القاعة وقد لاحظ ما بدى مني، فبعد أن أكملتُ طعامي جاء واقتربَ مني واستأذنَ الجلوس فرحّبتُ به، وبعد أن جلس قال: لاحظتُ منك حركة تبدو خشوعية قبل بدئك بالطعام، فرغبت أن أعرف ما وراء ذلك إن كان ذلك لا يُحْرجك... فابتسمتُ ورحّبتُ به من جديد وبادرته بسؤال قبل أن أجيبه، فقلت: لعلي لا أخطئ الظن لو قلتُ أنك سعودي المنشأ؟!... فضحك الرجلُ لهذه المداعبة الكلامية، وقال: صدقت، ولكن كيف عرفت؟ قلتُ من لهجتك المحببة.
ثم قلتُ: إجابة عن سؤالك، فأنا والحمدُ لله رجلٌ مسيحيٌ، عربي، أردني، مؤمن بالله. ومن عادتي قبل البدء بالطعام أن أرفعَ صلاة شكرٍ لله على ما قَسَمَهُ من طعامٍ، وأدعو الله أن يمنحه لكل محتاج إليه، فهي صلاةُ اعترافٍ بفضل الله. فقال: هذا جميلٌ، فنحنُ عادة نسمّي باسم الله ونبدأ الطعام، لكن بعضنا لا يفعل ذلك. فقلتُ: ونحن كذلك ليس كلّ مسيحي يقومُ بما قمتُ به.
ثمّ صمتَ الصديق قليلاً وقال: ما جزاء الذي لا يقومُ عندكم بالواجب الديني من صومٍ وصلاةٍ وغيرها من أصولِ العبادة؟ قلتُ: جزاؤه عند ربه، فهو إن أخطأ بحق الله له ربٌ أدبر به.
بعد هذا طلبتُ القهوة وشربنا معاً، وأثناء ذلك قال صديقي: استمعتُ يوماً إلى إذاعةٍ مسيحيةٍ وتكرّر استماعي لها، وشدّ انتباهي ما سمعته من معلوماتٍ ما كنت أعرفها من قبل. فقلتُ: وما الذي شدَّ انتباهك؟ قال: البحثُ كان لطيفاً وجذاباً ولغتُهُ بسيطة تخاطب العقل والقلب معاً بدون استخدام فخامة الكلمات، ولم أسمع مرة كلمة تُسيء إلى معتقدٍ آخر. ولا أكتمك أنني لم أفهم بعض المصطلحات إنما ذلك لم يحجب عني فهم ما طُرِحَ من بحوثٍ.
قلتُ: وهل تذكر ما نوع البحوث التي استمعتَ إليها؟ قال: استمعتُ مرّةً إلى حديثٍ عن الصومِ والصلاة والصدقة في المسيحية. فسألته وهل أعجبك شيء في هذه؟... قال أعجبني أن هذه العناصر الثلاثة ليست موضوع مباهاة بين الناس بل هي تمثل علاقة فرديّة خاصة بين المتعبّد وربه، وهذه معلومة استوقفتني عندها لبعض الوقت، وحقيقة نحن نجهل الكثير من المعلومات الصحيحة عن المسيحية، وما نَسمعهُ عنها مشوّهٌ وبعيدٌ عن الحقيقة.
هنا قلتُ: دعني أسألك سؤالاً صريحاً تجيبني عليه: حوارٌ لطيفٌ كهذا، هل هو مسموح هكذا في بلدك أن تجلس مع رجل دين مسيحي وتتبادل معه الآراء والأفكار بمثل هذه الصراحة؟ قال: هل أفهم أنك رجل دين؟ قلت: نعم، رجل دين ومن الذين قيل فيهم في القرآن: لأن منهم قسيسين ورهباناً، وأنا أعمل في الصحافة الدينية، إنما ما ردّك على سؤالي؟
فتململَ الأخ مبتسِماً ونظر حوله يُمنة ويُسْرة بصورة تمثيلية وقال: ها نحن نجلس معاً ونتحاور بالحسنى، فلا خطأ في هذا، ثم قال: طالما أنك رجل دين فلديَّ الكثير من الأسئلة، ومنها أنكم تتحدّثون عن المسيح بأنه رب الكائنات، فهل أفهم أن المسيحية تؤمن بتعدُّد الأرباب؟ ألستم ديانة مُوحِّدة؟
فقلتُ: هل لديك متسع من الوقت؟ قال: نعم، أمامي ثلاث ساعات. فقلت: يا صديقي عندما كان العرب أجدادك في زمن الجاهلية قبل ظهور المسيحية، كانوا يسجدون للأصنام ويتعبدون لآلهة متعددة، وكان المسيحيون بينهم ينادون بوحدانية الله، وكان هذا قبل الإسلام بمشوارٍ طويلٍ. لا يوجد مسيحي واحد في كلّ التاريخ من يؤمن بتعدّد الآلهة أو الأرباب. وللإجابة عن سؤالك هناك شقان من الحديث: في الشق الأول نتحدث عما يقول الكتاب المقدس من توراة وإنجيل عن وحدانية الله. أما في الشق الثاني لو أسعفنا الوقت ففيه سنتحدث عن لماذا يقول المسيحيون عن المسيح أنه رب.
ولنبدأ بالحديث عن الشق الأول، ماذا يقول الكتاب المقدس عن وحدانية الله؟ في سفر الخروج أصحاح 20 يقول الله: "أنا الرب إلهك، لا يكن لك آلهة أخرى أمامي". ويقول في سفر التثنية الأصحاح الرابع: " فاعلم اليوم وردّد في قلبك أن الرب هو الإله في السماء من فوق، وعلى الأرض من أسفل، ليس سواه"، وجاء في سفر إشعياء أصحاح 44 قول الله: "أنا الرب صانعٌ كلّ شيءٍ ناشرٌ السموات، باسطٌ الأرض، من معي!"؛ ويقول في أصحاح (45) من نفس السفر: "خالق السموات هو الله، مصوِّر الأرض وصانعها، هو قرّرها، لم يخلقها باطلاً، للسكن صوَّرها، أنا الرب وليس آخر". ويقول الإنجيل: "أنت تؤمن أن الله واحدٌ، حسناً تفعل، والشياطين يؤمنون ويقشعرون"، بمعنى أن حتى الشياطين تُدْرك أن الله واحدٌ، لكنها تقشعر من ذكره.
جاءت يوماً جماعة من اليهود إلى المسيح تجادله، فردَّ عليهم رداً حسناً. عندها برز من بين الجماعة واحدٌ ظنَّ أنه يمكنه أن يُحْرجَ المسيح بسؤالٍ صعبٍ فقال له: أيَّةُ وصية هي الأعظم بين الوصايا؟ فأجابه المسيح: هي هذه: "اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحدٌ". فقال الآخر بالحق قلت لأن الله واحدٌ وليس آخر سواه.
بهذا يا صديقي تكون قضية التوحيد لدى المسيحيين قضية واضحة لا لُبْسَ فيها، ففي المسيحية ربٌ واحدٌ لا ثاني له ولا ثالث. إنما كيف يكون المسيح رباً!؟... فهذا ما سبق وبيّناه في العدد الماضي عن الالتزام بوحدانية الله، وتحدّثنا عندها عن هل حقاً تجسّد الله في المسيح، هل صحيح أن الله ظهر بالجسد في شخص يسوع المسيح؟!. وهل يجوز لله أن يقوم بذلك؟! هل يحق له؟ وهل يقدر؟
وشرحت للصديق وجهة النظر المسيحية خلال حوارٍ لطيفٍ دام ساعتين، عرض كلٌ منا وجهة نظره، اتفقنا أحياناً واختلفنا في أحيانٍ أخرى لكن دون عصبية، ودون تكفيرٍ أو استعلاءٍ من أحدنا على الآخر، فذلك لو حصل يتأزم الموقف، وينفض اللقاء، وتُشحن القلوب بالحقد والبغضاء. أما من يصيب في مبدأ أو يُخطئ فيه، فله رب يحكم في أمره، فلماذا نحن كبشرٍ نستبقُ الأحداث ونزج بأنفسنا ونحكم على غيرنا بالقول: هذا للجنّة وهذا للنار فنُنصِّبُ أنفسنا للدفاع عن الله وشريعته بكراهية الآخر. فعقيدة الفرد تخصه شخصياً ولا دخلَ لأحدٍ غيره بها، وحسابه عند ربه، وهو الأعلم بما في القلوب.