أيلول (سبتمبر) 2007
لفت أنظارنا مشهد غريب ونحن نقضي إجازة صيفيّة في ولاية كاليفورنيا. مئات من عجول البحر مترامية على أحد شواطئ المحيط الهادئ. ماذا كانت تلك الحيوانات تفعل؟ لا شيء! فقط تعرّض أجسادها الممتلئة للشمس والهواء، وترى الواحد منها لا يكاد يقوى على الحركة ثم إن فعل، قام بذلك بتثقل كبير مما يجعلك تضحك وأنت تراقبه. وقد تقول: "ألم يخلقها الله هكذا؟" نعم، لذلك لا يمكن اتّهامها بالكسل فهي تثير الضحك لا اللوم، مثلها مثل الحيوانات الباردة الدم التي تقضي شهوراً في سبات شتوي. ولكن الأمر يختلف كل الاختلاف عندما نتحدث عن الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله. فلنبحث قليلاً في أمر الكسل ولنرَ، ما هو وكيف نعرّفه؟ ما هي أخطاره؟ وما هو علاجه؟
تعريف الكسل
الكسل حالة من التراخي وعدم الرغبة في العمل أو الحركة أو الإنجاز. وهو عكس النشاط والعطاء. يتقاعس الكسول عن الإنتاج النافع، ويقتل الوقت. فقد يكون موهوباً لكنه يهمل الموهبة، وقد يملك الفرص لكنه لا يغتنمها.
يحتاج كل إنسان بين وقت وآخر إلى الراحة، حتى إن المسيح قال لتلاميذه: ”تَعَالَوْا أَنْتُمْ مُنْفَرِدِينَ إِلَى مَوْضِع ٍ خَلاَءٍ وَاسْتَرِيحُوا قَلِيلاً“ (مرقس 31:6). أما ما يعنيه الكسل فهو الاعتياد على الراحة وتجنّب العمل إلى درجة ما يسمّى بلذّة الخمول والبطالة. ومن بوادر الكسل كثرة النوم والأكل وقلة الحركة. وقد شجّعت التكنولوجيا الحديثة وأنماط المعيشة في قرننا الحاضر على قلّة الحركة فأصبحنا نستخدم جهاز التحكم عن بعد للتلفزيون وسائر الأجهزة السمعية البصرية؛ والكمبيوتر الشخصي، ونتناول الوجبات السريعة والجاهزة، كما نعتمد على السيارة في الحركة وعلى المصعد الكهربائي في الأبنية. ألا تفتح الأبواب بشكل آلي لدى اقترابك إليها؟ وفي كثير من الأماكن العامة إن أردت غسل يديك يكفي أن تضع يدك تحت علبة الصابون لينساب تلقائياً وكذلك الماء لغسل اليدين، وورق التنشيف أيضاً! نعيش في عصر لا يتطلب منا سوى القليل من الجهد الجسدي. وفي حين كانت أمهاتنا وجدّاتنا يعجنّ العجين ويخبزن ويغسلن الثياب ويصرفن الساعات الطوال في الأعمال المنزلية فإنّنا ننجزها ذاتها اليوم بمجرد كبس بعض الأزرار. كذلك فإنّ آباءنا وأجدادنا زرعوا وحصدوا واعتمدوا على زنودهم في أشياء كثيرة لا ترهق رجال اليوم البتة.
أخطار الكسل
جسدياً، تأمّل في تفشي الأمراض، وآلام الظهر، والسمنة، والكولسترول، وآلام الركبتين والسكر وضمور العضلات. تشير الدراسات إلى أن السبب الرئيسي لتلك الأمراض هو قلة النشاط اليومي، وعدم استخدام الجهد العضلي كما كان في القرن الماضي وما سبقه. وأثبتت دراسة جديدة بأن الذين يقضي عليهم الكسل في هونغ كونغ هم أكثر من الذين يموتون بسبب التدخين. أما في أميركا فقد بيّنت أبحاث خبراء القلب أن السبب الرئيسي في الإصابة بأمراض القلب هو الكسل مع كلّ تداعياته؛ وأنّ الذين يعيشون حياة لا نشاط فيها هم أكثر عرضة للإصابة بالنوبات القلبية من الذين يمارسون الرياضة. وفي جامعة دوك في نورث كارولاينا توصَّل الباحثون إلى أن الكسل هو سبب اكتساب الدهون الخفية الخطيرة. ولا عجب أن تتفشّى ظاهرة زيادة الوزن في الولايات المتحدة بشكل واضح. كما كشفت دراسة مصرية حديثة أن الكسل يهدّد الرجولة، وسبقت مصر بلاد الغرب في تأسيس قسم متخصّص في هذه النوعية من الأمراض.
نفسياً، كثيراً ما يترافق الكسل مع إحساس باليأس والفشل وعدم الثقة بالنفس وبالآخرين. وقد يصاب الكسالى بالاكتئاب والإرهاق العصبيّ. يؤول الكسل إلى شحّ الإنتاج وتضييع الفرص ولذلك يصاب صاحبه بتحطّم في شخصيته وتأخر في كل مجالات الحياة، فينتفي الطموح وتزول الرغبة في التميّز والتحسّن. يقول الكتاب، "شَهْوَةُ الْكَسْلاَنِ تَقْتُلُهُ، لأَنَّ يَدَيْهِ تَأْبَيَانِ الشُّغْلَ" (أمثال 21: 25). ويتذرّع الكسلان بالأعذار، وهكذا يتدهور من فشل إلى فشل. "قَالَ الْكَسْلاَنُ: الأَسَدُ فِي الطَّرِيقِ، الشِّبْلُ فِي الشَّوَارِعِ!" (أمثال 13:26)، "اَلْكَسْلاَنُ لاَ يَحْرُثُ بِسَبَبِ الشِّتَاءِ، فَيَسْتَعْطِي فِي الْحَصَادِ وَلاَ يُعْطَى" (أمثال 4:20).
مادياً، يقول المثل الشعبي: ”البركة بدّها حركة“. ويقول الشاعر: "ورداءُ الفقرِ من نَسْجِ الكَسَل". قديماً قال الحكيم: "إلى مَتَى تَنَامُ أَيُّهَا الْكَسْلاَنُ؟ مَتَى تَنْهَضُ مِنْ نَوْمِكَ؟ قَلِيلُ نَوْمٍ بَعْدُ قَلِيلُ نُعَاسٍ، وَطَيُّ الْيَدَيْنِ قَلِيلاً لِلرُّقُودِ، فَيَأْتِي فَقْرُكَ كَسَاعٍ وَعَوَزُكَ كَغَازٍ". وأيضاً، "اَلْكَسَلُ يُلْقِي فِي السُّبَاتِ، وَالنَّفْسُ الْمُتَرَاخِيَةُ تَجُوعُ" (أمثال 9:6-11 و15).
اجتماعياً، صدرت في شهر آذار الماضي نتائج دراسة تفيد بأن الكسالى بين البريطانيين يكلفون الخدمات الصحية في بريطانيا أكثر من مليار جنيه إسترليني سنوياً (أي 95.1 مليار دولار) فالكسل يسبب عبئاً ثقيلاً على المجتمع. إنه يعطّل العلاقات الاجتماعية كما قيل، "كَالْخَلِّ لِلأَسْنَانِ، وَكَالدُّخَانِ لِلْعَيْنَيْنِ، كَذلِكَ الْكَسْلاَنُ لِلَّذِينَ أَرْسَلُوهُ" (أمثال 26:10).
روحياً، ينتهي بنا الكسل إلى الشلل الروحي. فلنلاحظ كيف يقرن الرسول بطرس الكسل مع عدم الإثمار، "لاَ مُتَكَاسِلِينَ وَلاَ غَيْرَ مُثـْمِرِينَ لِمَعْرِفَةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ". (2بطرس 8:1)، لذلك يوصي الرسول بولس في رومية 11:12 قائلاً: "غَيْرَ مُتَكَاسِلِينَ فِي الاجْتِهَادِ، حَارِّينَ فِي الرُّوحِ، عَابِدِينَ الرَّبَّ". فالمجتهد يضمن التقدُّم والارتقاء بعكس المتراخي كما جاء في الكتاب، "أَرَأَيْتَ رَجُلاً مُجْتَهِداً فِي عَمَلِهِ؟ أَمَامَ الْمُلُوكِ يَقِفُ. لاَ يَقِفُ أَمَامَ الرَّعَاعِ!" (أمثال 29:22).
هل الكسل خطية؟
أمر الله تعالى آدم بأن يعمل في جنة عدن قبل أن يسقط في الخطية، فالعمل ليس قصاصاً من الله. لكن عندما أخطأ الإنسان صار العمل محفوفاً بالتعب والإرهاق. والكسل هو نقيض العمل، فهو إذاً خطية. أعطانا المسيح مثل الوزنات حيث نجد عبداً أخفى فضة سيده، ولم يعمل، وبالتالي حصل على توبيخ سيّده الذي َقَالَ لَهُ: "أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ وَالْكَسْلاَنُ" (متى 26:25). ويعلّم بولس الكنيسة بأن الحياة الجديدة في المسيح تقتضي اجتهاداً وتعباً إذ يقول: "لاَ يَسْرِقِ السَّارِقُ فِي مَا بَعْدُ، بَلْ بالْحَرِيِّ يَتْعَبُ عَامِلاً الصَّالِحَ بِيَدَيْهِ، لِيَكُونَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ لَهُ احْتِيَاجٌ" (أفسس 28:4). كما يوصي أيضاً، "إنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضًا لأَنَّنَا نَسْمَعُ أَنَّ قَوْماً يَسْلُكُونَ بَيْنَكُمْ بِلاَ تَرْتِيبٍ، لاَ يَشْتَغِلُونَ شَيْئاً بَلْ هُمْ فُضُولِيُّونَ. فَمِثـْلُ هؤُلاَءِ نُوصِيهِمْ وَنَعِظُهُمْ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنْ يَشْتَغِلُوا بِهُدُوءٍ، وَيَأْكُلُوا خُبْزَ أَنْفُسِهِمْ. أَمَّا أَنْتُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ فَلاَ تَفْشَلُوا فِي عَمَلِ الْخَيْرِ" (2تسالونيكي 10:3-13).
محاربة الكسل!
مارس أي نوع من أنواع الرياضة ولو كانت المشي. سيساعدك ذلك لتجنُّب آلام كثيرة في الظهر وخاصة إن كان عملك يتطلَّب الجلوس أو الوقوف الطويل. أوصى الرسول بولس: "وَرَوِّضْ نَفْسَكَ لِلتَّقْوَى. لأَنَّ الرِّيَاضَةَ الْجَسَدِيَّةَ نَافِعَةٌ لِقَلِيل، وَلكِنَّ التَّقْوَى نَافِعَةٌ لِكُلِّ شَيْءٍ" (1تيموثاوس 7:4-8). وضع أحد مهندسي الكومبيوتر صالة لممارسة الرياضة في مركز العمل لأن الموظفين يقضون كل الوقت مقابل شاشات الكومبيوتر. فممارسة الرياضة بشكل منتظم تحسّن من أداء الذاكرة والانتباه واليقظة والقدرة على التعلُّم، كما تؤخر ظهور شيخوخة الدماغ.
تأمل خليقة الله، وخاصة العنكبوت، والنحل، والنمل (وليس عجول البحر)! قال أَجُور الذي من قبيلة مسّا العربيّة: "الْعَنْكَبُوتُ تُمْسِكُ بِيَدَيْهَا، وَهِيَ فِي قُصُورِ الْمُلُوكِ"
(أمثال 28:30). وقال سليمان: "اِذْهَبْ إِلَى النَّمْلَةِ أَيُّهَا الْكَسْلاَنُ. تَأَمَّلْ طُرُقَهَا وَكُنْ حَكِيمًا. الَّتِي لَيْسَ لَهَا قَائِدٌ أَوْ عَرِيفٌ أَوْ مُتَسَلِّطٌ وَتُعِدُّ فِي الصَّيْفِ طَعَامَهَا، وَتَجْمَعُ فِي الْحَصَادِ أُكْلَهَا" (أمثال 6:6-8).
شجّع الآخرين خاصّة الأطفال. فالطفل يتميّز بالفطرة بأنه مندفع ولا يعرف الكسل، يحبّ الاستكشاف ولا يستسلم للتعب. وكثيراً ما كنت أتمنى لو أن لي ربع الطاقة التي يتمتّع بها صغاري! لكن لنحذر من تفشيل الأطفال. فالصغير يحتاج أيضاً كما الكبير إلى الثناء على إنجازاتهم. وهذا ينمي الرغبة في المزيد من العطاء وفي تحسين الأداء وهو ما يسمونه "التعزيز" في علم النفس التربوي.
تدرّب على الانتظام في أوقات النوم. يوجد أناس صباحيّون وأناس مسائيّون، ومع أن العلماء يؤكدون أن الاستيقاظ المبكر أفضل إلا أن المهم هو عدد ساعات النوم. لا يحتاج أي بالغ إلى أكثر من 8-9 ساعات نوم إلا في أحوال صحية استثنائية. وقد قال الحكيم: "لاَ تُحِبَّ النَّوْمَ لِئَلاَّ تَفْتَقِرَ. افْتَحْ عَيْنَيْكَ تَشْبَعْ خُبْزًا" (أمثال 13:20).
تجنّب التأجيل ودرّب الأولاد عليه. إن كنت تستطيع القيام بعمل مفروض عليك قم به في الحال، لا تؤجله فتتكدّس عليك الواجبات، وتصبح هموماً يصعب حملها. ومن المهمّ أن ندرّب نحن أيضاً صغارنا وشبيبتنا على الاجتهاد. فقيامنا بالأعمال عوضاً عن أولادنا لن يعلّم الأطفال درساً إلا في التراخي والتقاعس. وفي حين أنّه من المعقول أن يساعد الأهل أولادهم في الواجبات المدرسيّة، لكنّ الخطر يكمن في تعويدهم على الاتكال علينا وقمع روح الاجتهاد والمسؤولية فيهم. يكفينا أن أنظمة التعليم في بلادنا تشجع الكسل بكثرة العطل والإجازات، فتلميذ المدرسة في دولة عربية مثلاً يداوم 130 يوماً في السنة مقابل 280 يوماً للتلميذ في اليابان!
تجنب الأطعمة الضارة والدسمة. يقول المثل: "الشبع مكسلة". ألا تشعر بالنعاس والارتخاء بعد الوجبات الثقيلة غير الصحية؟ إن كنا نؤمن أن أجسادنا هي هياكل الروح القدس الساكن فينا فحريّ بنا أن نحافظ عليها ونهتم بتغذيتها بطعام صحيّ متوازن. "فَإِذَا كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ أَوْ تَشْرَبُونَ أَوْ تَفْعَلُونَ شَيْئاً، فَافْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ لِمَجْدِ اللهِ" (1كورنثوس 13:10).
قال الخوارزميّ قديماً:
عَدْوى البليدِ إِلى البليدِ سريعةْ
والجمرُ يوضعُ في الرمادِ فيخمدُ
فلنتجنّب الكسل والكسالى، ولنفتّش على المجتهدين لنقتدي بهم. كما كان الرسول بولس الذي قال: "أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ حَاجَاتِي وَحَاجَاتِ الَّذِينَ مَعِي خَدَمَتْهَا هَاتَانِ الْيَدَانِ. فِي كُلِّ شَيْءٍ أَرَيْتُكُمْ أَنَّهُ هكَذَا يَنْبَغِي أَنَّكُمْ تَتْعَبُونَ وَتَعْضُدُونَ الضُّعَفَاءَ، مُتَذَكِّرِينَ كَلِمَاتِ الرَّبِّ يَسُوعَ أَنَّهُ قَالَ: مَغْبُوطٌ هُوَ الْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ الأَخْذِ“ (أعمال 34:20-35).