آب (أغسطس) 2008
قال الشاب لأمه: الحياة هنا يا أمي ضيقة ومحدودة ومكبّلة بتقاليد وعادات بالية. البقاء هنا قتل طموح وكبت حريات وتقوقع داخل مجتمع ضيق ومحروم. هل خُلقت لأدفن شبابي وربيع عمري هنا؟! أريد أن أحقق طموحي، وأودّ أن أشبع.. أن أرتوي.
أجابته الأم: هل في العالم يا ابني شبع وارتواء؟! إن متعة العالم كالمياه المالحة، تزيد شاربها ظمأ. هل تعرف إنساناً أشبعته اللذات وأروته؟! إن الشبع الحقيقي هو بخبز الحياة.. بالرب يسوع المسيح.. فهو مصدر الفرح والشبع، وبعيداً عنه يموت الفرح، وتنقبض الحياة.. وما أروع أن يقدم الإنسان حياته على مذبح التكريس للرب؟
وقع الشاب في صراع عنيف وقلق مرير.. يتمزق بين نصائح أم، ونداء حرية. والقرار فيه تحديد مصير!!! وأخيراً، سحقت عجلات الحرية حب وحنان الأم.
وقفت الأم في المطار تعانق ابنها طويلاً وعميقاً.. وكأنها تودّعه إلى الأبد، وتسأل في قرارة نفسها: هل سأراه مرة أخرى؟! ثم وقفت تودّعه وتلوّح بيديها لتعبّر عن حبها الكبير له، وقلبها النابض، وتردد بصوت بللته الدموع: يا ابني، لا تنس أن تكتب لي فور وصولك.
كان الوداع حميماً ومؤثراً، ثم أقلعت الطائرة تشق عباب السماء.
بعد ذلك، رجعت الأم إلى البيت، وأغلقت بابها، ثم جثت أمام عرش النعمة. وكانت صلاتها:
”ربي أصرخ إليك بثقة الإيمان، وإلحاح القلب أن تتولّى ابني برعايتك، وتسدد خطاه، وتحفظ قدميه من الزلل“.
مرت الأيام ووجد الشاب عملاً مناسباً بمرتب مرتفع في أحد المصانع.. ثم بدأ يتعرّف على زملائه في العمل، وامتدت الصداقة إلى فتيات ماجنات اعتبرن الحياة لذة ولهواً... فانحرف الشاب وجرفه التيار، واعتاد على حياة المجون، فأخذ يشرب الإثم كالماء، يكدّ نهاراً ويبدّد أمواله ليلاً... ثم يعود إلى مسكنه مع انبلاج الفجر وسط الشوارع الصامتة الموحشة... يرتمي على سريره وتختلج في صدره الخواطر:
هل هذه نهاية الحرية؟!
ضياع في عالم غريب؟!
غربة بين الأصدقاء؟!
جسد أنهكته الخطية؟
قلب يخفق في فراغ؟
يا نفسي، أين الفرح الذي تبتغين؟ أين الحرية التي تنشدين؟
في الصباح، كان يذهب إلى المصنع متأخراً عن ميعاد العمل، خائر العزيمة، يبدأ عمله وبعد حين يغلبه النعاس.. وهكذا تتوالى الأيام... ثم علم المسئول بمسلكه الأثيم فكاشفه بالحقيقة المؤلمة، بأنه مطرود من العمل.
وقف الشاب يبكي أمله الضائع، وواقعه الصاعق، ورأى نفسه تائهاً في خضم الحياة... لقد ابتعد عنه الأصدقاء، وهجره الأحباء... وتركوه يعاني الفقر والحاجة والعوز!
مرّت الأيام ببطء.. والأم في دوامة من التساؤلات والشكوك والآلام:
أين ابني؟
لماذا لم يكتب لها أي رسالة بالرغم من أنها أوصته مشدداً، ولا خبر على الإطلاق؟! هل ودّع البلد إلى الأبد؟ وإن كان.. هل نسي أمه التي عرف فيها عمق الحب، وجوهر العناية، وكتلة الحنان؟!
أخذت الأم تملأ الأجواء تضرعاً: ”ربي، ابني قطعة من قلبي... جزء من حياتي... احفظه من الشر وشبه الشر، أريد أن أطمئن عليه... دموعي تتوسل إليك... تقابل معه يا إلهي!“
لكن الشاب عندما رُفض من العمل، وتشوّهت سمعته، أصبح ناقماً على المجتمع، فترك العنان لأهوائه، وسجل الرقم القياسي في الشر، وضرب بسهم وافر من الرذيلة، فبدأ يقترف الجرائم!!! كانت النتيجة الحتمية أنه تم القبض عليه، وطُرح في السجن.
كان يتردّد على السجن قسيس المدينة، يجمع المساجين ويكلمهم عن الرب يسوع الذي جاء ليخلص الخطاة ويمنحهم الحياة.
كم تضايق الشاب من سماع هذه الكلمات. لقد تأجج الحقد في صدره، وكان يقول: كيف أن القسيس يصفنا نحن سكان السجون بالشر والخطيئة؟ فصمم على قتله بأي وسيلة.
في الزيارة التالية للقسيس - بينما كان مستغرقاً في الحديث عن عمق محبة المسيح وخلاصه لجميع البشر - قام عليه هذا الشاب وبكل ما يملك من قوة لكمه بشراسة ورماه أرضاً... وأسرع لنجدة القسيس مجموعة من المساجين والجنود وحملوه بعيداً.
بعدها انزوى الشاب وانتبذ ركناً، وأخذ يقول: لماذا يوجّه هذا الإنسان الكلام لي، يفتح جراحي، ويكشف ذاتي الأثيمة فتبدو أمامي الجحيم تفغر فاها لتبتلعني؟ وتقدم بعض الزملاء - الذين كانوا قد آمنوا عندما سمعوا كلمة الله على لسان القسيس - وأخذوا يقولون له: لماذا ضربته؟ ألا يستحق الشكر؟ فهو يحمل لنا تعزيات الله وغفرانه وعنايته.
مر الزمن، وخرج الشاب من السجن يائساً.. بائساً.. محطماً.. مقهوراً.. وبالإجمال كان مجرّد بقايا إنسان...
ماذا يفعل؟
هل يعود إلى بلدته ثانية؟
وماذا يقول؟ هل يبحث عن عمل؟
لا يستطيع أن يعمل، فلقد أنهكت الخطية قواه!
ضاق ذرعاً.. فوجد نفسه على شاطئ البحر.. وفكّر في الانتحار ليضع حداً لمأساة حياته.. أخذ يتأمل كثيراً في لجج البحر، وفي كلمات أمه البعيدة: ”إن حياة الإنسان ثمينة في نظر الله والقرار مصير أبدي“.
عاش الشاب الصراع.. ماذا؟ البقاء.. فاليأس.. أم الانتحار الذي يسدل الستار على مسرحية الحياة؟
شعر بخطوات إنسان تدنو منه.. لم يملك الشجاعة التي تواجه المشكلات.. فأراد أن يضع حداً لصراع فكره.. وطوّح بنفسه في لجة البحر.
أسرع الإنسان فنزع ملابسه بسرعة البرق... وبدافع المحبة والتضحية ألقى بنفسه إلى الماء، وأخذ يصارع الأمواج، وانتصر في النهاية بأن انتشل الشاب من الغرق، وأنقذ نفسه اليائسة.
بعد أن عاد الشاب إلى وعيه، فتح عينيه وبدأت تتحرك فيه الحياة بتنهدات ضعيفة.. ثم فتح عينيه وإذا بالراعي القسيس الذي لكمه في السجن هو الذي يهتم به..
تكلم الشاب بصعوبة: أهذا أنت يا سيدي؟.. أين أنا؟ ماذا حدث لي؟ لماذا أنا هنا؟ أنا آسف يا سيدي على ما حدث مني في السجن.
وراح في غيبوبة لبعض الوقت، وأفاق ليقول: من انشلني من أنياب الأمواج؟
قال الراعي: عندما كنت تواجه الموت لم تستطع محبتي أن تتجاهلك، فاندفعت أقاوم الأمواج.. والرب أنقذنا...
قال الشاب: ما أروعك إنساناً مضحياً.. غريباً.. نبيلاً.. صفوحاً.. في عالم تجتاحه الأنانيات، وتسوده المطامع، ويحركه الانتقام.
قال الراعي: عندما يسكن المسيح في القلب - يا ابني - يغيِّر الحياة بجملتها فيجعل الإنسان يقابل الإساءة بالصفح، والاعتداء بالغفران، والشر بالخير.
ثم أردف الشاب قائلاً: لكن، لماذا لم تتركني أتخلص من حياتي المليئة بالمآسي والآلام؟
قال الراعي: الانتحار يا ابني جريمة ضد النفس، بل ضد الله!
أجاب الشاب: لكنه الباب الوحيد للتخلص من آهات الحياة.
رد الراعي: لا.. يا ابني.. إن الرب يسوع هو المخلص الأوحد الذي ينشلك من فراغك ويأسك إن أقبلت إليه، وألقيت بكل حملك عليه، وفتحت قلبك له.
هنا قال الشاب: لا يمكن أن يلتفت الله إلى خاطئ نظيري!
وربت الراعي على كتف الشاب وقال له: يا ابني، كلما ازدادت الخطية، وتعاظم الإثم، ازدادت نعمة الله، واتسع غفرانه، ومن إحسانات الله عليك أنه أعطاك فرصة أخرى في الوجود، فيها تسلم حياتك للمسيح، وتبدأ حياة جديدة، فتتمتع بالحب الذي لا يعرف قيوداً أو حدوداً، وتتمتّع بالسلام الذي لا يُنطق به ومجيد، وبالرعاية الصالحة الشاملة.
هنا ذاب قلب الشاب الصلد أمام اعتناء وحب الراعي وكلماته التي ساقها روح الله إلى قلبه، وركع مصلياً:
”إلهي، كنت أطلب السعادة من عمق الحزن، والكرامة من حضيض العار، والسمو من حمأة الذل.
”إلهي، أنا جسد يستعر في نار الشهوات.. أنا حياة مزقتها أنياب القلق... أنا خاطئ.. غريق في الآثام... مستعبد للشرور.. حياتي قصة يأس مليئة بالفشل، والدموع، والآهات.
ارحمني، خلصني، انتشلني.. اقبلني.. امتلك حياتي.
بعد هذه الصلاة، قام والسلام العميق يملأ كيانه، والفرح يهز أعماقه. وأخذ القسيس يحتضنه، ويقبله، ويهنئه بالحياة الجديدة مع المسيح. وعلى الفور أرسل برقية إلى أمه يقول فيها.
”أمي الغالية... هذه أول كلمات أرسلها لك من بعد فراق طال كثيراً، وكان سبب ذلك بعدي عن الله، وأنا أعلم أن قلبك كان ينزف دماً علي - والدموع لم تجفّ بعد من على خديك... ولم تكفّي عن الصلاة لأجلي... افرحي يا أمي، لقد استجاب الله صلاتك... لقد تقابلت مع الرب يسوع. وسوف أعود إليك قريباً بمشيئة الله لأخبر بكم صنع الرب بي ورحمني“.